الخميس، 26 نوفمبر 2020

كم تبلغ من العمر؟

 



لا .. لا .. لم أعني عدد السنين منذ ولادتك حتى الآن.. 


أسأل عن النضج عن الرقي عن الرؤية عن الفعل ورد الفعل .. 


تعال أخبرك عن الصغر والكبر ، عن الطيش والنضج ، عن الحكمة والنزق .. 


لا تظن أن الهيبة والكبر بشيبة الرأس وانحتاء الظهر وتجاعيد البشرة .. 


الهيبة والكبر أمر أعمق من المظهر وأبلغ من أن يكون له عنوان ظاهر ..


الكبير .. ذلك الهادئ ذو الكبرياء الساكن كموج البحر ساعة صفائه.. 


الكبير .. بكاؤه بسمة؛ فقد صمت الجبال من صراخ آلامه سنينا ..


الكبير .. ذلك الذي لا ينشب مخالبه في شيء بل يداه مفتوحتان لمن بقي وكذا لمن يرحل .. 


الكبير .. ذلك الذي يرى من يمكر به ويلتفت للجهة الأخرى متجاهلا .. 


الكبير .. الذي يعتذر ويطيب الخواطر أكثر من غيره فهو يعلم أن الاعتذار وتطييب الخواطر يرفع قدر المرء ولا يهينه .. 


الكبير .. الذي لا يبطش حتى إذا قدر فهو يعلم أن البطش يدمر ويميت ما لا يمكن إحياؤه .. 


الكبير .. له هدوء السبع إذا ربض ثم وثبته إذا نهض لا ينطق إلا فصلا ..


الكبير .. ثابت لا يصول ولا يجول لكن إذا أحكم قصده وانتفض حرك الدنيا وغير موازين القوى فيها ..


الكبير .. لا يتنازع ليقدره الناس فهو يعرف قدره ويشهد له به حتى من يخافون من تقديره ..


الكبير .. رغم كل الغيوم تسطع في قلبه شمس فطر نقية ويترفع عن وضاعة الحقد وبراثن الغل ..


الكبير .. هادئ الطبع لين الجانب صادق القول بسيط الحضور تألفه القلوب ويأنس إليه ذوو الهمم وذو المظالم ..


ألم يلقب محمد صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين ويفصل في منازعات قومه وهو الفقير اليتيم والأصغر سنا بين سادة قريش .. ؟


لكنه وبشهادتة أعدائه الذي كانوا يكيدون له ويخططون لموته كان كبيرا نبيلا كريما ..


في زماننا وخاصة بعد الربيع العربي في أرجاء #السجن_العربي_الكبير ..


رأينا كهولا بطيش المراهقين وأحلام العصافير وتنازع الصبيان ونزق ذوي الأهواء ..


ورأينا صغار سن عمالقة تعرفهم دون أن ينطقوا ؛ أحداثا بعقول تزن الجبال وإخلاص تشهد عليه السموات والأرض وأرواح ترخص طوعا في سبيل ما آمنوا به .. 


ولم يئد الثورات إلا نزق الصغار شيوخا كانوا أو شبابا وسعة مطامعهم وتلاطم طيشهم ..


الآن أخبرني..


كم عايشت في هذه الدنيا من أهوال..؟


كم تعلمت من دروس هذه الأهوال..؟


كم مرة تعرضت للخذلان وخيبة الأمل والغدر ؟


هل مازلت تغضب إذا تخلى عنك أحد وتنشب أظافرك فيه وتزمجر .. أم لم تعد تبالي ؟


لأي حد أنت صادق مع نفسك مخلص فيما تقول وتعمل ؟


لقدر ما يعاني المرء في حياته يكبر ويغفر ويحلم ويقل عتابه ويطول صمته ويكثر تأمله وتزداد حكمته وتقل من الدنيا أحماله ومخاوفه .. 


بقدر ما يتعرض المرء للامتحان من البشر بخذلان أوخيبة أوغدر تقل ثقته حد الحماية وتختبئ أسراره في قعر بعيد في نفسه وتغترب روحه عن أكثر المحيطين به .. 


بقدر كل الأهوال التي يعايشها تجد ردود فعله هادئة وأكثر ما يقلب دنيا الناس بالكاد يحركه ليس تبلدا ولكن خبرة وحكمة من كثرة ما عايش من أهوال .. 


بقدر ما يرى الإنسان من بشاعة الكذب وزيف النفاق ويشمئز من أهله وتتكشف له حقائقهم يربأ بنفسه عنه ويترفع عن التدنس في أوحاله .. 


وقبل كل شيء صدق مع الله في الإخلاص وصحة القصد وتوفيق الله للعبد وتأييده له ..


إياك أن تحكم على ذلك الهادئ الساكن الذي يطول صمته ويقل كلامه ونادرا ما يبدو انفعاله وقليلا ما يلتفت لمن يسقط منه ؛ إياك أن تظنه بليدا أو بارد الطبع ..


إنه أكثر الناس حكمة وأبعدهم رؤية وبين عينيه أكبر مكتبة وثائقية لأحداث الدنيا وتقلباتها وعاقبة تحولاتها ..


تعلم منه واستفد وقدر حكمة المجرب وأحسن التأدب بين يديه .. 


حين تجالس الكبير لن تجده بحاجة لشيء منك ؛ فغاية أمله ألا يمتحن الناس بأي ألم عايشه .. 


أكثر ما يسعده أن يخفف عن الناس معاناتهم ويخدمهم بوحي خبرته .. 


لا يهمه أبدا التصفيق له وعد المحامد ولا يغريه الجلوس على المنصات ولا حقائب الأموال؛  كل هذا لا يعدو في عينه أكثر من زيف ونفاق لتسلق الرقاب وبلوغ المناصب ، وليس حبا ولا تقديرا .. 


هو لا يحتاج إلا قليل من المعروف وكثير من الصدق وأن يكف الناس عنه أذاهم فقد احتمل ما يكفي من الألم .. 


الآن اصدق نفسك القول وقل لها ماذا بقي لها لتكبر؟


وكم خطوة بينك وبينك أن تكون كبيرا عظيما نقيا هادئا قويا غير مؤذ .. ؟


لأي حد أنت صادق مع نفسك مخلص لله مقاصدك ؟


عندها فقط تكون قد وضعت قدميك على أول طريق الرقي والرفعة والراحة في هذه الدنيا من أن تتقاذفك أهواؤها .. 


ليس الطريق سهلا بل وعر ونادر الرفقة وربما تسير فيه وحيدا ؛ لكنه بمعية الله والإخلاص والصدق ممكن ويسير ومؤنس ومرضي بعون الله وكرمه وعدله..


لا أحد سيجعل منك كبيرا أنت فقط القادر على ذلك .. 


#دين_الفطرة 

بقلم : #فاطمة_بنت_الرفاعي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق