"فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ".
(سورة الرعد؛ الآية 17).
سيِّد قطب؛ معالم متجددة للسيرة والمسيرة
جاءني قوم وقالوا إنهم قرروا التوقف حتى يعرفوا معنى الحياة، فقلت لهم تحركوا دون إبطاء، فالمعنى كامن في الحركة. (نجيب محفوظ)
جاءني قوم وقالوا إنهم قرروا التوقف حتى يعرفوا معنى الحياة، فقلت لهم تحركوا دون إبطاء، فالمعنى كامن في الحركة. (نجيب محفوظ)
لعلَّ جدليَّة العلاقة بين المثقف والسلطة أقدم مما يتخيَّل الكثيرون. لعلَّها قديمةٌ قِدَم فكرة السلطة السياسيَّة نفسها. بل لعلَّها أكثر إيغالًا في القِدَم مما نتصوَّر؛ برجوع أصلها للإنسان الأوَّل، أو للنبيِّ الأوَّل إن شئنا مزيد الدقَّة! فإذا كان اصطلاح "المثقَّف" (بالإنكليزيَّة إنتلكتشوَل Intellectual) حداثيًّا حادثًا؛ ذا ظلال غربيَّةٍ تتقاطع مع اصطلاح "المستنير" (باللاتينية إلومناتوس Illuminatus)، بما لكليهما من رصيدٍ معرفيٍّ ودلاليٍّ مُحَمَّلٍ بمعاني العداء للدين (خصوصًا الدين المؤسسي/الرسمي)، فإن العلاقة الإشكاليَّة نفسها تتخذ أشكالًا مختلفةً كُليًّا إذا انتقلنا للتجربة التاريخيَّة الإسلاميَّة. وإذا كان "المثقَّف" الأوروبي الحداثي الملتزم بقضايا مجتمعه مُعاديًا بالضرورة للسُّلطتين الدينيَّة والسياسيَّة؛ بما لهاتين السُّلطتين – المتحالفتين غالبًا حسبما تخبرنا تجارب التاريخ – من تاريخٍ طويلٍ في تقويض الإنسان، فإن "المثقَّف" المسلم صاحب تجربةٍ مختلفةٍ إلى حدٍّ كبيرٍ، بما أنه قد مثَّل "سلطة" تأويل المرجعيَّة الدينية في عصور الازدهار؛ من ابن حنبل إلى ابن رشدٍ. أما الاختلاف الأهمُّ بين "المثقَّف" الغربي و"نظيره" المسلم، فهو اختلافٌ في انتمائه وطبيعته، ومدى وضوح هذا الانتماء وقوَّته؛ ناهيك عن تعريف دوره ومجال عمله وحجم مسئوليته. ذلك الاختلاف الذي يؤدي حتمًا لاختلاف المسمَّى/ الدال في السياق الإسلامي عنه في السياق الغربي. لكننا برغم ذلك آثرنا استخدام اصطلاح "المثقف" لسببين؛ أولهما شيوع استخدامه، وثانيهما أن "المثقَّف" المسلم المعاصر هو – بشكلٍ أو بآخر – أحد إفرازات الصدام بين العالم الإسلامي والحداثة الغربيَّة، وإن حملت شخصيَّات كثيرٍ من المثقفين المسلمين وتوجُّهاتهم بصماتٍ واضحةً للتقليد العلمائي الإسلامي العتيق.
يُفرِّق علي شريعتي بين المثقَّف والمفكِّر، ويعتبر الأول هو أيُّ مُتعلم شاملًا التكنوقراط، وهو التصوُّر الذي يتفق معه ميشيل فوكو إلى حدٍّ ما؛ مُعتبرًا أن المثقَّف العالمي – نموذج سارتر– قد أخلى موقعه للمثقف المتخصص – نموذج روبرت أوبنهايمر – إلا أن إدوارد سعيد يؤكد أن المثقَّف هو شخصٌ صاحب رسالةٍ، ولا يمكن اختزاله إلى مهنيٍّ مجهول الهويَّة؛ مجرَّد فردٍ كُفءٍ ينتمي إلى طبقةٍ تابعةٍ، ويُمارس عملًا روتينيًّا فحسب.
ينقل إدوارد سعيد عن جون كيري أن مشكلة المثقف ليست هي المجتمع الجماهيري كله، بل إنها تتمثل في ذوي السلطة، أي في الخبراء، وفي الشِّلَلْ (الجماعات المؤتلفة على أساس المصالح أو الأيديولوجيا)، وفي المهنيين الذين يقومون بتشكيل الرأي العام وتطويعه حتى لا ينشق على السلطة/الدولة.
استكمالًا لهذه الصورة، يرى عبد الوهاب المسيري أن النظرية السياسية الحديثة قد زادت من مُطلقية الدولة عن طريق فكرة الشعب؛ باعتباره المصدر الوحيد للسلطات والقوانين. وقد تطوَّرت هذه الفكرة حتى أخذت شكل الشعب العضوي، باعتباره مُطلقًا (وثنيًّا). ولكن صفة المطلقية هنا لا تنسحب على الإنسان من حيث هو إنسان فردٌ قادرٌ على الاختيار الأخلاقي الحرِّ، وإنما تنسحب فقط على مجموعةٍ من البشر؛ لها سماتها الجماعيَّة ومصالحها المشتركة، تخلع على نفسها (من حيث هي جماعةٌ) صفة القداسة والمطلقية.
والدولة-الملأ في هذا التصوُّر قد استولت استيلاءً كاملًا على الفرد، فقد شبهها عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان؛ بالطبيب والمهندس والبستاني.
فالوطن هو الحديقة، والدولة هي البستاني الذي يميِّز بين النباتات النافعة وتلك الضارَّة، ويُقرر عزل الضار منها، أو تهذيبه، أو استئصال شأفته وإبادته، وذلك كما فعل النازيون مع الغجر واليهود والمسنين والمعاقين والعجزة.
والدولة هي أيضًا المهندس الذي يُدير الفضاء الذي يتحرك فيه المواطن، فيخطط المدن والطرق، ويبني البنايات العامة، ويضع حدودًا للبنايات الخاصة، ليتحرك الإنسان في رقعةٍ تم تخطيطها مسبقًا، ومن ثمَّ يمكن محاصرة حركته والتحكُّم فيها. وهذه الدولة المهندس هي التي تقرر المجال الحيوي الذي تتحرك فيه الأمة ككل، وتقرر حيِّزها وحيِّز غيرها.
والدولة كذلك هي الطبيب، والشعب هم المترددون على عيادتها فيُحدد الطبيب مقياس الصحة والمرض، وما هو طبيعيٌّ وما هو شاذٌّ، ويقرر عدد الأصحاء، وتوفير الظروف المواتية لهم ليزدادوا صحةً وعددًا (الهندسة الوراثية). أما المرضى والمعاقون، فهو إما يعالجهم، وإما يستأصل شأفتهم (القتل الرحيم).
فالوطن هو الحديقة، والدولة هي البستاني الذي يميِّز بين النباتات النافعة وتلك الضارَّة، ويُقرر عزل الضار منها، أو تهذيبه، أو استئصال شأفته وإبادته، وذلك كما فعل النازيون مع الغجر واليهود والمسنين والمعاقين والعجزة.
والدولة هي أيضًا المهندس الذي يُدير الفضاء الذي يتحرك فيه المواطن، فيخطط المدن والطرق، ويبني البنايات العامة، ويضع حدودًا للبنايات الخاصة، ليتحرك الإنسان في رقعةٍ تم تخطيطها مسبقًا، ومن ثمَّ يمكن محاصرة حركته والتحكُّم فيها. وهذه الدولة المهندس هي التي تقرر المجال الحيوي الذي تتحرك فيه الأمة ككل، وتقرر حيِّزها وحيِّز غيرها.
والدولة كذلك هي الطبيب، والشعب هم المترددون على عيادتها فيُحدد الطبيب مقياس الصحة والمرض، وما هو طبيعيٌّ وما هو شاذٌّ، ويقرر عدد الأصحاء، وتوفير الظروف المواتية لهم ليزدادوا صحةً وعددًا (الهندسة الوراثية). أما المرضى والمعاقون، فهو إما يعالجهم، وإما يستأصل شأفتهم (القتل الرحيم).
ويُضيف المسيري أن الدولة أيضًا هي الطبيب النفسي الذي يُقرر من هو الصحيح نفسيًا ومن هو العليل، ومن هو المنتمي، ومن الذي يُعبِّر عن اتجاهات ضارة غير اجتماعيةٍ، ومن ثم يلزم استئصاله.
وأُضيف أن الدولة في هذا التصوُّر –نظريًّا- هي إله كهنته الملأ، لكن الوضع في حقيقة الأمر معكوسٌ؛ فالآلهة الحقيقية هي الملأ، أما تأليه الدولة واعتبار مصلحتها القوميَّة دينًا فهو مجرد ستارٍ يتوارى خلفه أصحاب المصالح ممن يُهيمنون على السلطة ويستعبدون العباد. فالدين الحقيقي هو مصالح الملأ الماديَّة التي تدعمها سلطتهم المعنويَّة.
إن الانحراف عن خط "الدولة" في هذا النظام، وعدم الخضوع لمطلقيتها ومن ثم قوانينها؛ هو خيانة عظمى لـ"الوطن" يستحق المرء عليها عقوبة الإعدام!
يؤكد إدوارد سعيد – كمثقف حداثي علماني – على دور اللامنتمي الذي يضطلع به المثقف أو المفكر في العصر الحديث، والذي نشأ من عمق إدراكه لمدى العجز الذي يشعر به المرء إزاء شبكة قوية غلابة من "السلطات الاجتماعية" – مثل أجهزة الإعلام، والحكومات، والشركات العابرة للقوميَّات – والتي تسحق الإنسان، وتسد المنافذ أمام إمكان تحقيق أي تغييرٍ مباشرٍ، بل وقد تقضي على المثقف أو المفكر، بالانزواء للقيام بدور الشاهد السلبي الذي يشهد على المخازي التاريخيَّة؛ التي لولا شهادته ما سجَّلها أحدٌ.
إن دور اللامنتمي الذي يضطلع به المثقف الحداثي الملتزم – في رؤية سعيد – لا يحلُّ الإشكاليَّة الأصليَّة بشكلٍ واضحٍ، بل يزيد عليها حدَّة أزمة الاغتراب (بالإنكليزية ألينيشن Alienation) الذي يُقاسيه المفكِّر والمثقف الحداثي داخل مجتمعه. ذلك الاغتراب الذي يجعل مهمَّته – بل حياته نفسها! – بالغة الصعوبة؛ بين ما يتطلَّبه الشهود على مجتمعه من ناحيةٍ، ومقاومته لمشاعره السلبيَّة بالاغتراب والشذوذ والضياع من ناحيةٍ أخرى. تلك المتلازمة من المشاعر المتضاربة التي قد تدفع بالمفكِّر إما إلى العدميَّة، أو التخلِّي عن رسالته، وهما خياران أحلاهما مُرٌّ.
ويبدو لي أن مشكلة المثقَّف الحداثي ليست إلا امتدادًا حديثًا وتنويعًا جديدًا للعقبة الكئود التي واجهت الأنبياء على طول التاريخ. إنه نفس الخطر؛ طبقة المنتفعين التي سمَّاها القُرآن قبل أربعة عشر قرنًا بـ"الملأ"، وذكرها سبعة عشر مرَّةً للدلالة على خطورتها. فلا تخلو قصَّة نبيٍّ من الأنبياء من "ملأ" يسخرون منه، ويُسفِّهون دعوته، ويؤلبون الملوك والحُكَّام عليه. ولا تخلو قصَّةٌ من قصص الأنبياء من تحالفٍ بين أرباب المال وأركان السلطة وكهنة الدين الوثني؛ والذي يتخذ صورًا وأشكالًا مُتغيِّرة بتغيُّر الزمان. إنه الثالوث الأزلي المدنَّس؛ الذي بحَّ صوت علي شريعتي في التحذير منه: تحالُف فرعون، وقارون، وبلعم بن باعوراء.
لقد أثبتت تجارب التاريخ أن المعضلات الإنسانيَّة الكبرى، والتي جاء القرآن بحلولٍ قاطعةٍ لها؛ لا تتغيَّر في حقيقة الأمر، فجوهرها واحدٌ، وإن اختلفت تمثُّلاتها وصورها وظواهرها. وقد فصَّل القرآن بطرح حلٍّ لا مثيل له لهذه الإشكاليَّة، وذلك في تناوله لمفهوم الأمَّة. لم يُقدِّم حلًّا ماديًّا قابلًا للتقويض، كرابطةٍ سياسيَّةٍ أو تنظيميةٍ أو بيولوجيَّةٍ مثلًا، لكنَّه قدَّم حلًّا شعوريًّا يليق بالإنسان كما خُلق في أحسن تقويم؛ حلًّا يليق بأمَّة البلاغ من بني الإنسان التي يمثِّلها المفكرون/الدعاة/المثقفون. ويبدو هذا الحلُّ واضحًا جليًّا في حديث الوحي الإلهيِّ عن معاناة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) في تبليغ رسالات ربِّهم. إنه يؤكد على فكرة الجماعة الإيمانيَّة العابرة للزمان والمكان، والتي ينتمي لها الإنسان المسلم. إن هذا التصوُّر يجتثُّ أي شعورٍ بالغُربة قد يُعانيه المثقَّف في سبيل القيام برسالته. فهو ليس غريبًا مُنبتًّا، بل هو ذو انتماءٍ وثيقٍ، ونسبٍ عريقٍ لشجرةٍ أصيلةٍ؛ شجرة الأنبياء وحوارييهم. إنه يقف جنبًا إلى جنبٍ مع طليعة المجدِّدين وعموم المصلحين وجملة المجاهدين من كل العصور. إن القرآن يحرص على شحذ قدرة الإنسان على تجاوز الواقع المادي كلِّه، وعلى استشراف عالم الغيب والانتماء له. إنه يحرص على تخفيف صلته بالطين، وعلى تفلُّته من أسر الأمر الواقع، وزيادة قدرته على بلورة رؤية واضحة لما ينبغي أن يكون. إن القرآن يحرص على تكوينك كإنسان، وهو في ذلك يمنحك تصوُّرًا غير قابلٍ للتقويض أو الهزيمة ما حرصت على التزامه.
ولذلك فالتصوُّر القُرآني للوعي التاريخي الإنساني تصوُّرٌ فريدٌ، ولن تكون منحة الإله كتخبُّطات العبيد. ويجدُر بنا التوقُّف لتحرير مصطلح "الوعي التاريخي" حتى يستطيع القارئ متابعة الفصل دون غبشٍ أو تشوُّشٍ. الوعي التاريخي هو ذاكرة الشعور الإنسانيِّ الواعي برحلة الكبد داخل التاريخ؛ ذاكرة التُخمة والذنب المصاحبين للإخلاد إلى الأرض، وذاكرة اﻷلم والأمل المصاحبين للعروج إلى المولى. إنه الوعي بتجارب الإخفاق والنجاح؛ ذاكرةُ الشعور وليست ذاكرة الأحداث. الوعي التاريخي باﻷمَّة؛ بالأنبياء وخلفائهم من لدُن آدم عليه السلام. إنَّهُ ما يسخر المادِّيون منه، وينسبونه للرومانتيكيَّة؛ ثُمَّ يُعانون الاغتراب بسبب إنكارهم له! إنَّهُ ما يجعلني أبكي ألم هزيمة بواتيه (بلاط الشهداء)، برغم انتهاء الحدث الذي لم أُشارك فيه مُباشرةً. إنه الوعي باﻷمَّة كتجربةٍ شعوريَّة أبديَّة الحيويَّة. لقد عُرِّف الأدب قديمًا بأنه تجربةٌ شعوريَّةٌ، وعرَّفهُ علي عزَّت بيغوفيتش بأنَّهُ -في جوهره- سيرةٌ ذاتيَّةٌ. وإذا كان الوعي باﻷمَّة تجربةً شعوريَّةً مُستمرَّةً، فهو في ذات الوقت -وفي جوهره- سيرةٌ تختلط فيها الذاتيَّة بالموضوعيَّة، والعام بالخاص، والكُلِّي بالجُزئي. إنَّهُ كشفٌ لطبيعة ورصيد المعرفة والشعور المغروسين في الفطرة البشريَّة؛ إنَّهُ كشفٌ واستحضار لربَّانيَّة الإنسان وعُمق ميراثه الفطري. إنَّهُ الكبد الجوَّاني السابق على الكبد البرَّاني والمنشئ له.
إن إدراك كينونة هذا الوعي التاريخي، باعتبارِه أهم اﻷعباء الإنسانيَّة أمرٌ لا تستطيعُ الفلسفةُ تجريدَه، بل يجبُ أن يوكل لفنانٍ مُرهفٍ. فالفنان يتمثَّل التصوُّر القُرآني كلما اقترب من الفطرة. يقول نزار قبَّاني في قصيدة الحُزن: لم أعرف أن الحُزن هو الإنسان/ وأن الإنسان بلا حُزنٍ ذكرى إنسان. إنَّهُ لا يتحدَّثُ عن الحُزن كانفعالٍ طارئٍ أو كعاطفةٍ عابرةٍ، بل يتحدَّث عن ذاكرة شعورٍ؛ عن الوعي الذي يُشكِّل الإنسان. الوعي بأن الإنسان أكثر عُمقًا وقداسةً. وكلما ازداد عُمقًا ازداد قداسةً وألما، باقترابه من أصله. إنه "الحيوان الذي يرفُض أن يكون كذلك" كما يقول ألبير كامو، إن ذلك الرفض هو سبب شقائه وكبده اﻷبديين … وحزنه الفريد.
إن الذين قالوا لقارون: لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ؛ كانوا من هذه النوعية من البشر ذوي البصيرة النافذة. لا تفرح؛ أي لا تخرُج من التاريخ وتأمن المكر. إنك في دار ابتلاءٍ، فأحسن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ. لا تغرق في طوبيا المتاع المادِّي فهي ليست نهاية المطاف. إنها مما يمقُته الربُّ العلي. إن إيقاف حركة التاريخ والتدافُع ليس هو السبب الذي خُلقنا لأجله.
يقول الإمام مُحمَّد عبده واصفًا أثر اﻷستاذ جمال الدين الأفغاني فيه، ومُعبِّرًا بعمقٍ عن معنى الوعي التاريخي: لقد أعطاني والدي حياةً يُشاركني فيها علي ومحروس (أخويه)، أما السيِّد جمال الدين؛ فقد أعطاني حياةً أشارك بها مُحمَّدًا وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فجوهر الوعي التاريخي القرآني هو تحوُّل إبراهيم وموسى وعيسى ومُحمد وحوارييهم وصحابتهم وأنصارهم وتابعيهم على الجملة (وبغير تحديدٍ)، تحوُّلهم إلى شخصيَّاتٍ حيَّةٍ تتحرَّك في عالم الواقع؛ حركةً حيَّةً يُمكن احتذاؤها واقتفاؤها غائيًّا. أن يتحوَّلوا لحُداةٍ لقافلة الإيمان الممتدة عبر التاريخ وإلى قيام الساعة، وليس محض شخصيَّاتٍ تاريخيَّةٍ "ميَّتةٍ" تُقرأ قصصها على سبيل التثاقُف وتزجية الفراغ.
إن القُرآن ما ذكر هذا الرهط المبارك إلا وأردف بتأكيد ارتباط المسلم به؛ نرى ذلك مثلًا في سورة المؤمنون: "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ"، وفي سورة اﻷنبياء: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ". وليت اﻷمر اقتصر على هذا فحسب، بل إن السياق في سورة المؤمنون يجعل مفهوم التحزُّب نقيضًا للمفهوم القرآني للأمَّة وتقويض لها ولهويتها، فترى المولى سُبحانه يُردف مباشرةً بقوله: "فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ". إنَّهُ وإن كان التحزُّب لا يُخرج من الملَّة كما يبدو من ظاهر الآيات؛ إلا أنه يجعل هذا التصوُّر الجاهلي البغيض مُبطلًا للمفهوم القُرآني عن وحدة الأمَّة واستمرارها التاريخي.
*****
يرى إدوارد سعيد أن المثقف فردٌ يتمتع بموهبةٍ خاصَّةٍ تمكنه من حمل رسالةٍ ما، وتجسيدها والإفصاح عنها إلى مجتمعٍ ما. ولم يحدث أن قامت ثورةٌ كبرى في التاريخ الحديث دون مُثقفين، وفي مقابل ذلك لم تنشب حركةٌ مُناهِضةٌ للثورة دون مثقفين. فالمثقفون هم آباء الحركات، وأمهاتها. ولا يمكن للمثقف في هذا التصوُّر أداء هذا الدور المؤثر إلا إذا أحس بأنه شخصٌ عليه أن يطرح علنًا أسئلةً محرجةً، وأن يواجه الباطل الذي يجري مجرى الحق، ولو بمفرده. وأن يكون فردًا يصعُب على أصحاب السلطة والمال استقطابه، وأن يكون مبرر وجوده هو تمثيل الأشخاص والقضايا التي عادةً ما يكون مصيرها التجاهل أو الإخفاء. فالمثقف أو المفكر، عند إدوارد سعيد؛ ليس داعية مسالمة ولا داعية اتفاقٍ في الآراء، لكنه شخصٌ يخاطر بكيانه كله باتخاذ موقفه الحساس والواعي، وهو موقف الإصرار على رفض الصيغ السهلة والأقوال الجاهزة المبتذلة، أو التأكيدات القائمة على المصالحات اللبقة والاتفاق مع كل ما يقوله ويفعله أصحاب السلطة وذوو الأفكار التقليدية. فأبعد شيءٍ عن هذا التصوُّر هو وجود مثقفٍ يسعى إلى جعل جمهوره يشعر بالرضا والارتياح، فالمقصد الحقيقي هو إثارة الحرج، بل والاستياء والحنق على فساد الواقع، ومن ثم الرغبة في تغييره. وكما قال غرامشي، فإن جميع الناس يفكرون؛ لكن وظيفة المثقف أو المفكر لا يمكن أن يقوم بها كل أفراد المجتمع. إذ من المهام المنوطة بالمثقف أو المفكر أن يحاول تحطيم الأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية التي تفرض قيودًا شديدة على الفكر الإنساني وعلى التواصل بين البشر.
إن القُرآن ما ذكر هذا الرهط المبارك إلا وأردف بتأكيد ارتباط المسلم به؛ نرى ذلك مثلًا في سورة المؤمنون: "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ"، وفي سورة اﻷنبياء: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ". وليت اﻷمر اقتصر على هذا فحسب، بل إن السياق في سورة المؤمنون يجعل مفهوم التحزُّب نقيضًا للمفهوم القرآني للأمَّة وتقويض لها ولهويتها، فترى المولى سُبحانه يُردف مباشرةً بقوله: "فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ". إنَّهُ وإن كان التحزُّب لا يُخرج من الملَّة كما يبدو من ظاهر الآيات؛ إلا أنه يجعل هذا التصوُّر الجاهلي البغيض مُبطلًا للمفهوم القُرآني عن وحدة الأمَّة واستمرارها التاريخي.
*****
يرى إدوارد سعيد أن المثقف فردٌ يتمتع بموهبةٍ خاصَّةٍ تمكنه من حمل رسالةٍ ما، وتجسيدها والإفصاح عنها إلى مجتمعٍ ما. ولم يحدث أن قامت ثورةٌ كبرى في التاريخ الحديث دون مُثقفين، وفي مقابل ذلك لم تنشب حركةٌ مُناهِضةٌ للثورة دون مثقفين. فالمثقفون هم آباء الحركات، وأمهاتها. ولا يمكن للمثقف في هذا التصوُّر أداء هذا الدور المؤثر إلا إذا أحس بأنه شخصٌ عليه أن يطرح علنًا أسئلةً محرجةً، وأن يواجه الباطل الذي يجري مجرى الحق، ولو بمفرده. وأن يكون فردًا يصعُب على أصحاب السلطة والمال استقطابه، وأن يكون مبرر وجوده هو تمثيل الأشخاص والقضايا التي عادةً ما يكون مصيرها التجاهل أو الإخفاء. فالمثقف أو المفكر، عند إدوارد سعيد؛ ليس داعية مسالمة ولا داعية اتفاقٍ في الآراء، لكنه شخصٌ يخاطر بكيانه كله باتخاذ موقفه الحساس والواعي، وهو موقف الإصرار على رفض الصيغ السهلة والأقوال الجاهزة المبتذلة، أو التأكيدات القائمة على المصالحات اللبقة والاتفاق مع كل ما يقوله ويفعله أصحاب السلطة وذوو الأفكار التقليدية. فأبعد شيءٍ عن هذا التصوُّر هو وجود مثقفٍ يسعى إلى جعل جمهوره يشعر بالرضا والارتياح، فالمقصد الحقيقي هو إثارة الحرج، بل والاستياء والحنق على فساد الواقع، ومن ثم الرغبة في تغييره. وكما قال غرامشي، فإن جميع الناس يفكرون؛ لكن وظيفة المثقف أو المفكر لا يمكن أن يقوم بها كل أفراد المجتمع. إذ من المهام المنوطة بالمثقف أو المفكر أن يحاول تحطيم الأنماط الثابتة والتعميمات الاختزالية التي تفرض قيودًا شديدة على الفكر الإنساني وعلى التواصل بين البشر.
ولذا، فلا يمكن أن يوجد –حسب قول إدوارد سعيد- من يتسمى بالمثقف ذي العالم الخاص؛ لأنه بمجرد أن يخط الكلمات على الورق وينشُرها حتى يدخُل العالم العام. كما أنه لا يوجد ما يمكن أن يُسمَّى بالمثقف ذي العالم العام فقط، أي المثقف الذي ينحصر دوره في كونه رمزًا، أو مُتحدثًا باسم قضيةٍ أو حركة تكون علمًا ووقفًا عليه، إذ دائمًا ما نلمح تأثير الجانب الشخصي والحساسية الفردية الخاصة، وهما العاملان اللذان يُضفيان المعنى (الروح) على ما يقول المثقف وما يكتب.
وإدوارد سعيد بهذا التصوُّر يتجاوز الإطار "المرسوم" لمثقفي الحداثة وما بعدها؛ حيث تسقط الغائيَّة ويذوب الإنسان في عالمٍ فردوسيٍّ من السلع واللذائذ، بل يتجاوز الإطار النظري الذي ينتظم حركة المثقف في العالم الغربي حتى في أوج عصر الإصلاح البروتستانتي. وهذه الصلابة الميتافيزيقية مرجعها بالأصل لتصوُّرات المدرسة "ما بعد الكولونيالية" التي يمثلها. فهذه المدرسة الرومانتيكية لا زالت تنطوي على الكثير من الصلابة والتماسُك الأخلاقيين، برغم أنها محضٌ مقلوبٌ للأيديولوجيات الماديَّة الإمبرياليَّة التي صدرت احتجاجًا عليها؛ مثلها مثل أيديولوجيَّة مالكوم إكس الرومانتيكية في المرحلة الأولى من حياته؛ مرحلة ما قبل حجِّ البيت الحرام. لكن هذه الصلابة الرومانتيكية ذاتها هي التي جعلت للنسق ما بعد الكولونيالي مقدرة على لعب دور المعبر المعتبر من الحداثة إلى التوحيد، وذلك كما لعب الأدب الرومانتيكي عين الدور مرَّاتٍ عدَّةٍ في تغيير مسارات مُثقَّفين مسلمين ممن أسهموا في تغيير مسار الفكر الإسلامي في القرن العشرين بشكلٍ واضحٍ وعميقٍ. وإذا كان سيِّد قطب هو المثل الأبرز على قدرة الصلابة الرومانتيكية ذات الطبيعة الدينية على تجسيد تلك النقلة البعيدة من تيه الحداثة إلى سعة التوحيد، فإن التجربة قد تكررت غير مرةٍ؛ ولعل أشهر أمثلتها هو جلال آل أحمد في إيران وعبد الوهاب المسيري في مصر. صحيح أن عناصر النسق الأيديولوجي (للمزيد من التفصيل عن مفهوم الأيديولوجيا راجع الفصل الذي عقدته باسم: التوحيد والأيديولولجيا) ظلت حاضرةً في وعي وإنتاج عبد الوهاب المسيري إلى حدٍّ ما، وفي نموذج آل أحمد بدرجةٍ أقل، إلا أن نسق قطب قد تخلَّص منها أو كاد، خصوصًا منذ أن توقف عن كتابة المقالات في منتصف الخمسينيات بسبب اعتقاله؛ فلا تكاد تجد لها أثرًا في كتاباته التالية.
لقد كان اعتقال قطب بداية مرحلة تألُّقه الحقيقيِّ؛ فهذه الخلوة الإجباريَّة سمحت له بالاحتفاظ بمسافةٍ من الحدث جعلته يكُفُّ عن الاشتباك المباشر مع الوقائع اليوميَّة – ديدنه بصفته ناقدٍ أدبي واجتماعي- ليتفرَّغ لتطوير أفكاره على هيئة طفرات. وبعد أن كانت حُريَّته تزيد من حدَّة الصراع بين الروح والبدن والواقع والمثال، فإن سجن البدن قد أطلق روحه لتُحلِّق في فردوس القرآن؛ فتفيَّأ الظلال ودوَّن تجربة الحياة في ظلال القرآن في مؤلفه العمدة الذي يحمل نفس الاسم، مُدركًا إمكان تقويم بعض عناصر الواقع التي انحرفت عن المثال، تقويمها بإخلاص القصد في أمر الإنسان كله؛ تقويمها برجوعها للأصل الذي أدى الابتعاد عنه لاتخاذه صورة المثال النظري "المستحيل" في الأذهان. وقد دوَّن سيِّد تجربته ليقرأها بعد ذلك أجيال من الجهَّال الذين سوَّل لهم جهلهم الاعتذار بسجنه، ليتأكد قوله في أسلافهم: إنه قد وضع حِملَه على بعيرٍ أعرج!
وإذا كان الاستقراء السريع لمجلة من أهم مجلات العصر، مجلة المسلمون التي كان يصدرها سعيد رمضان في خمسينيات القرن العشرين؛ يُثبت بما لا يدع مجالا للشك أن سيِّد قطب لم يكن نتوءًا في الحياة الثقافية المصريَّة كما تدَّعي السرديَّة الناصريَّة، وأنه ابن تقليدٍ راسخٍ يُعضِّده جيلٌ كاملٌ من مفكري الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وليس في مصر فحسب، فمما لا شك فيه أنه قد سبق هذا الجيل بخطواتٍ واسعةٍ خلال سنوات سجنه العشرة؛ سبقه إلى درجةٍ اقتضت استئصال شأفته لتديجن باقي الجيل والحيلولة دون لحاقه به. إن مَن يطالع كتابات أئمة هذا الجيل وأئمة القرن العشرين في مجلة المسلمون يُدرك تمامًا أن سيِّدًا كان طليعة جيلٍ كاملٍ؛ جيل مثَّل بعضه كُتَّاب هذه المجلَّة: محمد ضياء الدين الريس، مُحبُّ الدين الخطيب، عبد الوهاب عزَّام، البشير الإبراهيمي، أبو الأعلى المودودي، حسنين مخلوف، علي الطنطاوي، محمد أبو زهرة، أبو الحسن الندوي، محمد يوسف موسى، سعيد النورسي، البهيُّ الخولي، عمر بهاء الأميري، حسن الهضيبي، عبد القادر عودة، محمد أسد (ليوبولد فايس)، محمود حسن إسماعيل، مصطفى السباعي ... وآخرون!
وإذا كان من الخطايا الشائعة في أوساط المتفيقهين والإسلاميين المتصدِّرين سياسيًّا التعاطى مع مشروع سيّد قطب باعتباره اجتهادًا فقهيًّا؛ لا همَّ له سوى تقسيم العالم لفسطاطي كُفرٍ وإيمانٍ لاستنزال اللعنات بحقِّ الأول والرحمات بحق الثاني! ومن ثمَّ يُنفق الكثيرون أعمارهم القصيرة، ويبحُّون أصواتهم القبيحة، ليبيِّنوا للناس أنه ليس فقيهًا، وإنما مجرَّد أديب بارع، وكأنها سُبَّة! فإن انتشار كتابات قطب في أركان الأرض الأربعة برغم هذا الحصار الفكري وهذه الملاحقة الأدبيَّة يثبت أن البُعران العرجاء لا بد وأن يوزن وجودها ببعض أولي الألباب؛ الذين انتبه قلَّة منهم إلى أن مشروع الرجل أكثر عُمقًا وطموحًا؛ إنه مشروعٌ معرفيٌّ كلاميٌّ- أصولي قضيَّته تحرير "المنهج" وتصحيح التصوُّر الجوَّاني الذي يستقيم به الواقع البرَّاني الفاسد على مراد الله؛ إقامةً للحجة وقيامًا بواجب الدعوة التي ابتُعثنا لها وبها، وليس ترتيبًا للأحكام الفقهية العينية على هذا الواقع ... لاستنزال العقاب بحقِّه!
لقد أثبت سيِّد قطب لأول مرَّة في العصر الحديث؛ أثبت إمكان جمع المسلمين على كلمةٍ سواء تتجاوز التجزئة الاستعماريَّة، بل تتجاوز اللغة والمذهب والحزب والسياسة والتياسة. أثبت عمليًّا إمكان تجاوز كل الحدود التي كرَّسها الغرب وحافظ عليها عملاؤه، إمكان تجاوزها متى عادت الأمة إلى جوهر الرسالة التي ابتُعثت بها: لا إله إلا الله. إذ لقيت كتبه انتشارا هائلًا في أهم بلدين مسلمين، بعد مصر؛ من حيث الوزن الاستراتيجي: تركيا وإيران. وكأن هذا الانتشار تأكيدٌ على إمكان عودة قيادة الأمة الإسلاميَّة بعد غيابٍ طويلٍ إلى بعض العرب؛ ما أخلصوا الوِجهة. فكان جيل محمود طالقاني وبقايا "فدائيان إسلام" ومحمد تقي شريعتي (والد علي شريعتي) في إيران؛ ممن تأثروا تأثرًا عميقًا بدرجاتٍ متفاوتةٍ بكتابات سيِّد. بل قد لا يعلم الكثيرون أنها كانت تُترجم (منذ الستينيات) في الحوزة العلميَّة في قمٍّ، وأن المرشد الخامنئي مثلًا كان ممن ترجموا ونشروا كتابات سيِّد بالفارسيَّة برغم الحظر الشديد الذي فرضه نظام الشاه عليها قبل الثورة. لقد كانت كتابات سيِّد معينًا لا ينضب لكل مفكِّري ومفجِّري الثورة وعلى رأسهم علي شريعتي. وفي تركيا الكماليَّة وقبل مرور جيل واحد على تجربة أتاتورك، وانتهازًا للمساحة الضئيلة من الحريَّات التي أتاحها خلفاء الصنم للمجتمع ليتنفس؛ أثبت المثقف المسلم مرَّة أخرى عالميَّته وقدرته على القيادة، فكان في استشهاده أشد حضورًا وأكثر بروزًا. فجاءت أعمال سيِّد قطب في صدارة أولويات واهتمامات حركة الترجمة الضخمة التي دُشِّنت لترجمة أعمال الآباء المؤسسين للحركات الإسلامية، حركة تصدَّرها مترجمون أكفاء أمثال أحمد حمدي آق سكي، وعمر رضا طغرل، ومحمد أمين سراج الحنفي الأزهري الإسلامبولي تلميذ زاهد الكوثري، والذي أنفق حوالي خمسة عشر عامًا في ترجمة الظلال؛ فكان أن وجدت كتابات الشهيد سيِّد قطب طريقها للقارئ في طبعات شعبيَّة أدهش انتشارها المراقبين الغربيين الذين لم يستطيعوا تفسير الظاهرة، ولم تجد الحكومة التركيَّة بُدًّا من التغاضي –ولو مؤقتًا- عن هذا التيار، وذلك لسببين؛ أولهما أنهم اكتشفوا أن "المدَّ الإسلامي" هو الوسيلة الوحيدة لمقاومة الشيوعيَّة التي مثَّلت الخطر الأكبر في ذروة الحرب الباردة، وثانيهما هو سوء العلاقات مع مصر خلال الستينيات. وعشيَّة استشهاد سيِّد قطب، زحفت تظاهرات ضخمة للأتراك على القنصليَّة المصريَّة في إستانبول احتجاجًا على إعدامه، وينقل الراحل إبراهيم الدسوقي شتا – الذي كان مقيمًا هناك وقتها – أن الجماهير حملت لافتات كُتب عليها بالتركيَّة: سيد قطب جنت، ناصر لعنت. وهي غنيَّةٌ كلَّ الغنى عن التعليق!
إنه إن كان النموذج الذي يطرحه إدوارد سعيد يُعبِّر نظريًّا عن نسقٍ متجاوزٍ للنسق الأوروبي؛ فإنه يظل حبيس نسق المثقف الأوروبي (صاحب الدور النظري الساكن) في حقيقة الأمر. وهو التصوُّر الذي تجاوزه قطب بإعادة الاعتبار للتصور الإسلامي في استصحاب الجانب الحركي - الاجتماعي ونموِّه مع التطوُّر النظري جنبًا إلى جنبٍ في نسيجٍ واحدٍ. وهو استصحابٌ لم يكن مَرَدُّه اطراد لنسق ردود الفعل الذي وصم المدرسة ما بعد الكولونيالية وتشرَّبته أيديولوجيات الإسلام السياسي التي ظهرت في حقبة السبعينيات وما بعدها؛ بالتعامُل مع الحركة باعتبارها تنظيمًا حزبيًّا داخل المجتمع. إن تصوُّر سيِّد عن الحركة يجسِّد وعيًا بأنها تنظيمٌ لِذَاتِ الإنسان المسلم ولشبكات العلاقات في المجتمع المسلم كلِّه؛ تنظيمٌ لحركة المسلم ومجتمعه في أداء كل مهامهم الحياتيَّة كما يتلخص ذلك في قوله تعالى: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين".
لقد كان ابن الحداثة هو أول تفاعل مسلم معها يتجرَّد إلى حدٍّ كبير من مُصطلحها بعد أن انسلخ شعوريًّا من مفاهيمها الجاهليَّة ذات الطبيعة السكونيَّة، ليستعيد التصور القرآني الحيَّ والمصطلح القرآني النابض، ويُعيد الفكر الإسلامي لساحة التدافُع العالمي؛ كفكرٍ أصيلٍ يبني الذات الإنسانيَّة على قواعد الوحي وقيمه الحاكمة، وليس مجرد ردِّ فعلٍ أبتر على الحداثة الغربيَّة. في حين بقي أكثر مُفكري الإسلام سجناء للإجراءات العمليَّة وطرائق بناء الحضارة الماديَّة؛ يدفعهم هوس التوفيق بين الدين والعقل وبين الدين و"الحضارة" الغربية وعلومها، فلم يستطيعوا التخلُّص من تأثيرات الحداثة، بل استسلموا لها وسعى بعضهم -عبثًا- لأسلمة بعض معارفها ومفاهيمها.
لقد كان في موسى الذي رُبِّي في حجر فرعون هلاك الأخير بقدر الله!
*****
يتجلَّى اتجاه قُطب لما أسمِّيه بـ"العمل الفكري التأسيسي" منذ كان طالبًا بُكليَّة دار العلوم، ففي إبان دراسته بالفرقة الثالثة عام 1933 يُحاضر – بإشراف أستاذه محمد مهدي علام – تحت عنوان: مهمَّة الشاعر في الحياة؛ تلك المحاضرة التي نُشرت فيما بعد في صورة كتاب، باعتبارها أوَّل أعماله على الإطلاق. بل إنه جاوز ذلك باقتراحه بعض التغييرات في المناهج التي لم يكن راضيًا عنها، وهو طالبٌ لا يزال! ومَن يقرأ محاضرته السالفة الذكر يكتشف للوهلة الأولى أنه أمام مُفكِّرٍ مُختلفٍ في طور التكوين، وليس مُجرَّد أديبٍ مُتأملٍ عميق الفكرة، بل مُجدد صاحب رسالة يسعى لتشكيل دوره في مجتمعه.
*****
يتجلَّى اتجاه قُطب لما أسمِّيه بـ"العمل الفكري التأسيسي" منذ كان طالبًا بُكليَّة دار العلوم، ففي إبان دراسته بالفرقة الثالثة عام 1933 يُحاضر – بإشراف أستاذه محمد مهدي علام – تحت عنوان: مهمَّة الشاعر في الحياة؛ تلك المحاضرة التي نُشرت فيما بعد في صورة كتاب، باعتبارها أوَّل أعماله على الإطلاق. بل إنه جاوز ذلك باقتراحه بعض التغييرات في المناهج التي لم يكن راضيًا عنها، وهو طالبٌ لا يزال! ومَن يقرأ محاضرته السالفة الذكر يكتشف للوهلة الأولى أنه أمام مُفكِّرٍ مُختلفٍ في طور التكوين، وليس مُجرَّد أديبٍ مُتأملٍ عميق الفكرة، بل مُجدد صاحب رسالة يسعى لتشكيل دوره في مجتمعه.
لقد انغمس سيِّد قُطب كُليًّا في الحياة الأدبيَّة طوال ثلاثينيَّات القرن العشرين، وشطرًا من الأربعينيَّات. فعُرف كأديبٍ مُرهَفٍ، وكناقدٍ بارعٍ صاحب رؤيةٍ نافذةٍ ومنهجيَّةٍ مُتجددةٍ. وقد ملأت معاركه الأدبيَّة الدنيا، وأسمعت من به صمم. بدءًا بمعركته الحامية مع تلاميذ الرافعي عام 1938م، ومرورًا بمعاركه مع محمد مندور، ودريني خشبة، وانتهاءً بمعركته مع شيوخ الأدب في عام 1947م، والتي حمل فيها بشدَّة على العقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ومحمد حسين هيكل، وأحمد أمين، وجيلهم كلِّه تقريبًا. لقد رآهم سيِّد يتخلَّون عن أمانة الأستاذية لجيل الشباب، ويساندون المستعمر بدل أن يقودوا المواجهة ضدَّه، وحين انتهت الحرب العالميَّة الثانية تحوَّل بعضُهم لأبواق حزبيَّة رخيصة، وتعاموا عمَّا كانت تُعانيه مصر في هذه الآونة، وتقوقع أغلبهم على نفسه منغمسين في لذائذهم الخاصة؛ حسب وصفه.
لقد كانت معركته مع شيوخ الأدب عام 1947م إعلانًا للنقلة البعيدة التي مرَّ بها الناقد الفذُّ في منتصف الأربعينيَّات. فقد نشر عام 1945م كتابه الأول الذي يُعبِّر عن التغيُّر الواضح في وجهته تحت عنوان: التصوير الفنِّي في القرآن، وتلاه بكتابه: مشاهد القيامة في القرآن عام 1947م. وبينهما – 1946م-كان قد بدأ يبتعد عن أستاذه العقَّاد، وجاءت معركته مع شيوخ الأدب لتُظهر بوادر هذه المفاصلة، حتى كتب الإعلان النهائي لانفصاله الكُليِّ عن العقاد في فبراير عام 1948م في صورة مقال نقدي لديوان شعري لأحد تلاميذ العقَّاد، فانتهز الفرصة ليُعلن مخالفته للعقَّاد، ولمنهجه، ولفهمه في الأصول كُلِّها. وجاء كتابه: النقد الأدبي؛ أصوله ومناهجه عام 1948م مُعبِّرًا عن رؤيته الجديدة. لقد أعاد سيِّد قُطب اكتشاف القُرآن من خلال الأدب، ذلك الإنجاز المعرفي – اكتشاف الإسلام من خلال الأدب – الذي سيُكرره جُزئيًّا وبصورة مُختلفة عبد الوهاب المسيري بعدها بعقودٍ ثلاثةٍ.
لقد كان لتجربة سيِّد قُطب مع القرآن في كتابيه: التصوير الفنِّي في القرآن، ومشاهد القيامة في القرآن؛ أثرٌ بعيد الغور على روحه وشعوره، بل وعلى منهجه كُلِّه. كان التحوُّل العميق قد بدأ، ولم يعُد مُمكنًا إيقافه. فقد بدأ سيِّد في هذه الحقبة ينشر مقالاته الإصلاحيَّة التحريضيَّة العنيفة في مجلتي الرسالة والثقافة، بل وأنشأ مجلتين لهذا الغرض وإن لم تُعمِّرا طويلًا، إذ أغلقتهما السلطة.
وبعد أن ضاقت الحكومة والقصر بسيِّد، عَمِل النقراشي – رئيس الوزراء آنذاك – على إيفاد صديقه إلى أميركا بهدف التخلُّص منه ومن نشاطه المزعج. لم يكُن هناك هدف مُحدد وراء ابتعاثه، إذ كان المُهم هو إخراجُه من البلد، وبما أنه كان يعمل في التفتيش الفني بوزارة المعارف، فقد رتَّبوا له "الاطلاع" على مناهج ونُظم التعليم في أميركا، باعتباره خبيرًا في المناهج.
وفي نوفمبر 1948م كان سيِّد رحمه الله على ظهر الباخرة المتوجِّهة من الإسكندريَّة لنيويورك. لم يُخرَج حتى جاوز الأربعين، وبلغ أشُدَّهُ مُفكّرًا مُلتزمًا ذائع الصيت. أُخرج مُسلمًا مُكتمل النضج واعيًا. بل إنه كان داعيةً للإسلام على ظهر المركب الذي حمله لأميركا! سافر تاركًا خلفه قبسًا من روحه المتوهجة الوثَّابة في صورة كتاب: العدالة الاجتماعيَّة في الإسلام، والذي قام على نشره أخوه مُحمَّد قطب عام 1949م. ذلك الكتاب الذي وَضَعَ سيِّد قُطب على قمَّة "الحركة الوطنيَّة" المصريَّة كأهم مُفكِّر ومُنظِّر للتغيير الاجتماعي في عصره. الكتاب الذي شبَّه بعض ضبَّاط انقلاب يوليو 1952م تأثيره فيهم وفي إعدادهم لـ"الثورة"، بتأثير كتابات فولتير في الثورة الفرنسيَّة. ذلك التأثير الذي سيستمر علنًا على أغلب هؤلاء الضباط حتى عام 1953م، وسيمتد لمنتصف الستينيَّات على بعضهم؛ حتى ليدفع كمال الدين حسين – أحد أبرز أعضاء مجلس قيادة الثورة – لتوزيع نسخ مجانيَّة من كتاب قُطب الأشهر: معالم في الطريق؛ على معارفه وأصدقائه، مُعرِّضًا نفسه لغضب عبد الناصر.
وما أن حط سيِّد الرحال في أميركا حتى بدأت محاولات احتوائه. وتنافست كلٌّ من الاستخبارات الأمريكيَّة والبريطانيَّة في هذا الصدد، وكان من ذلك أن عرض البريطانيون مُساعدته لترجمة كتابه: العدالة الاجتماعيَّة في الإسلام، لكنَّه آثر إيكال العمل للمستشرق جون هاردي، الأستاذ بجامعة هاليفكس بكندا.
لم ينطو سيِّد – رحمه الله – على نفسه خلال فترة ابتعاثه، فقد طاف عدَّة ولايات، وزار مُدن أمثال بالو ألتو، وسان دييغو، وسان فرانسيسكو، وكان طريح الفراش في إحدى مستشفيات الأخيرة؛ حين رأى مظاهر فرحة الأمريكان وابتهاجهم بمقتل حسن البنا "عدوِّ المسيحيَّة في الشرق"؛ كما كان يُوصَف. هذه الفرحة الأميركية التي ستدفع به دفعًا للتعرُّف على الإخوان عن قُربٍ حتى انضم لهم عام 1953م؛ كما ترجِّح أكثر الأقوال. لقد انخرط سيِّد رغم مرضه في نشاطٍ اجتماعيٍّ واعٍ – بغرض استكشاف المجتمع – جعله مثلًا يشترك في نادي الكنيسة في مدينة غريلي بولاية كولورادو، ويكتب المقالات في بعض صحف نفس المدينة! لقد كانت رحلته استكشافيَّة بكُلِّ ما تحمله الكلمة من معانٍ.
لم يكُن سيِّد مُبتعثًا عاديًّا، قدم من بلدٍ مُستعمَرٍ، مهزومًا ومُفرَّغًا من الداخل، ومُتلهِّفًا على التلقِّي من "السادة"، وتبني رؤية العالم "المُتحضِّر". بل كان على النقيض من ذلك كُلِّهُ. فما أن وطئت قدماه أرض العالم الجديد، حتى أدرك بحسِّ الأديب المُرهَف أن أميركا هي مقبرة الإنسان، وأن "حضارتها" تسحقه سحقًا، وتُشيِّئُه. أدرك سيِّد ذلك كُلَّهُ قبل أن تظهر الأدبيَّات النقديَّة للحداثة، وقبل "الثورة" الجنسيَّة، والانفجار الاستهلاكي في منتصف الستينيَّات، وقبل بروز مدرسة فرانكفورت، وقبل ميلاد اليسار الجديد. أدرك سيِّد ذلك كُلَّه للوهلة الأولى، وأميركا في قمَّة انتصارها بعد انتهاء الحرب الثانية. رأى سيِّد فساد ذلك كُلِّه بفطرة المؤمن كما رآه من قبلُ وعبَّر عنه بعض شُعراء الغرب. رآه وأميركا تتسلم قيادة العالم من بريطانيا!
فلم تَخلُ رسائل سيِّد إلى أصدقائه في مصر من انتقادات لاذعة للحضارة الأمريكيَّة، ومظاهرها؛ تلك الحضارة التي أسماها بـ"الورشة الضخمة السخيفة"! فهو يعتبرها "أكبر أكذوبة عرفها العالم"! (من رسالة لمحمد جبر)، لكنَّهُ رغم ذلك لا يبخسها حقَّها في العلوم البحتة. أما محاولة الاستفادة منها في العلوم الإنسانيَّة، أو فيما سمَّاهُ بـ"الدراسات النظريَّة"، فإنه يعتبره انسياقًا وراء الدعاية الأمريكيَّة! وهو -مثلًا- يعيب على الأمريكان الانشغال المفرط بالإجراءات (بعدما يقرُب من نصف قرن سيُسمِّيها عبد الوهاب المسيري بحضارة الإجراءات) في بعض رسائله: "إن بحثًا يُقدَّم للدكتوراه في إحدى جامعاتهم -وقد قُدِّم فعلًا- عن أفضل الطرق لغسل الأطباق، أحب إليهم ألف مرَّة وأهم من رسالة عن الإنجيل، إن لم يكن أهم من ذات الإنجيل …"! (من رسالة لتوفيق الحكيم). وفي نفس الرسالة يقول: إن شيئًا واحدًا ينقُص هؤلاء الأمريكيين – على حين تذخر أميركا بكُلِّ شيءٍ – شيء واحد لا قيمة له عندهم … الروح! وفي رسالة أخرى (لعباس خضر) يقول: "تصلُح أميركا أن تكون (ورشة العالم)، فتؤدي وظيفتها على خير ما يكون، أما أن يكون العالم كُلُّه كأميركا، فتلك هي كارثة الإنسانيَّة بكُلِّ تأكيد"!
إن اصطلاح "الورشة الضخمة" يُهيمن بشكلٍ واضحٍ على خطابات الشاعر المُرهف التي أرسلها من أميركا، وهو يُفصِّل دلالاته في أحد خطاباته لصديقه أنور المعدَّاوي قائلًا: "هنا الغربة، الغربة الحقيقيَّة. غُربة النفس والفكر. غُربة الروح والجسد. هنا في تلك الورشة الضخمة التي يدعونها العالم الجديد". إنَّهُ يضع يده على أمراض الحضارة الغربيَّة قبل حوالي عشرين عامًا من انتباه أغلب مُفكري الغرب المعاصرين لها: التشيؤ، والاغتراب، وانسحاق الإنسان أمام الآلة. إنها فطرة المؤمن حين تستقيم على أصلها. فطرةٌ قد وافقتها فطرة الفنان وعقله اللاواعي في شارلي شابلن مثلًا، والذي اكتفى بالسخرية من هذه الأمراض على عكس شاعر مكلوم برهافته مثل وليم بليك.
لقد وصف سيِّد الدعاية المُضلِّلة لأميركا، والتي يقوم بها بعض المصريين العائدين من هناك؛ بشكلٍ عميق ودالٍّ في نفس الرسالة التي أرسلها للمعدَّاوي: "فهُم لا يجدون – بأشخاصهم الضئيلة – لأنفسهم قيمةً ذاتيَّةً، فيُبالغون في تضخيم أميركا، علَّهم يستمدُّون منها قيمةً ذاتيَّةً"! أما هو فقد نفذت بصيرته –كأديبٍ مؤمنٍ- إلى الجوهر المتعفِّن، في وقتٍ لم تكن الغالبيَّة العظمى قد انتبهت له!
وفي رسالةٍ أخرى لأنور المعدَّاوي – مُرسلة من واشنطن في 6 مارس 1950م – يُعالنهُ بنيَّته في اعتزال النقد الأدبي، وبأنه سيُخصص ما بقي من حياته، وجهده "لبرنامجٍ اجتماعيٍّ كاملٍ، يستغرق أعمار الكثيرين".
أقام سيِّد في أميركا حوالي العامين. وبما أنه لم يكُن مُبتعثًا كطالبٍ، ولا مُضطرًّا لاستكمال مرحلةٍ دراسيَّةٍ مُعيَّنةٍ، بل كانت مهمَّته ميدانيَّةً، فقد كان إنهاء بعثته بيده. وعاد سيِّد في 20 أغسطس عام 1950م. عاد من عاصمة الرأسماليَّة ليؤلف كتابه: معركة الإسلام والرأسماليَّة، والذي نُشِر لأوَّل مرَّةٍ عام 1951م.
*****
ولقد يحلو للبعض المقارنة بين قطب وبعض معاصريه. وربما كان مالك بن نبي مثالًا بارزًا على هذه المقارنات المجحفة بحقِّ من يوضع في كفَّة مقابلةً لسيِّد.
*****
ولقد يحلو للبعض المقارنة بين قطب وبعض معاصريه. وربما كان مالك بن نبي مثالًا بارزًا على هذه المقارنات المجحفة بحقِّ من يوضع في كفَّة مقابلةً لسيِّد.
لقد شقي ابن نبي في سبيل الإمساك بتلابيب لغةٍ رياضيَّةٍ يلتصق فيها الدالُّ بمدلوله: فلا مجاز، ولا مسافات، ولا تأويل، وهو الأمر المستحيل نظرًا للطبيعة الإنسانيَّة المركَّبة. فأنفق مالكٌ صفحاتٍ كثيرةً يحوِّم حول أفكاره، ولا يتطرق إليها مباشرةً. لذا يجد الكثيرون صعوبةً في فهمه باليُسر الذي يتأولون به قطب، ويبنون أطروحاتهم على ما تأولوا!
ولعل أزمة ابن نبي ترجع لتأثُّره العميق بالفكر الغربي، إذ كان يكتُب بالفرنسيَّة في الغالب الأعم، لأن عربيَّته لم تكن تُسعفه. لكن قُطب، العربيُّ الوجدان والذائقة؛ الذي كان واعيًا بأن اللغة تظلُّ دائمًا وأبدًا أداةً قاصرةً، فاستخدمها من هذا المنطلق مؤمنًا بأن المجاز ليس مجرَّد زُخرفٍ أجوف، بل جزء لا يتجزأ من البنية المعرفية، له دوره الأساسي في تعزيز الإدراك. أما ابن الثقافة الفرنسية، فلم يُدرك هذه الخاصِّيَّة في ظل اهتماماته الإجرائيَّة والتقنيَّة ودراسته للهندسة، فهو لم يكن أعجميَّ اللسان فقط، بل أعجميَّ الذهن آليَّ التصوُّر، وقد بذل جهده للالتفاف حول هذه العقبة بكثرة استخدام الصور التمثيليَّة والمعادلات شبه الرياضيَّة لتقريب مراده.
إن إشكاليَّة اللغة المجازيَّة التي يستخدمها قُطب لها جذورٌ في تجارب بعض أقطاب الصوفيَّة القُدامى؛ كالحلاج، وابن عربي، وابن الفارض. بغض النظر عن شطحات بعضهم في التعبير عن مواجد تقعد اللغة -عمومًا- بطبيعتها عن تصويرها، ولا بُدَّ أن تنحرف بها العبارة عن مدلولها. إن لغة الفقه الرياضيَّة أعجز من لغة العرفان القرآنيَّة. إن اللغة المجازيَّة الرحبة بعيدة كُلَّ البُعد عن لغة التقرير القانونيَّة الحرفيَّة، ولا يُمكن أن تُحاكم إحداهما للأخرى. إن الهوة بين المعرفة العقلية والتذوق الإنساني عميقة، ولا يُمكن تجاوزها.
إن كتابات سيِّد قطب ذات طبيعةٍ خاصَّةٍ؛ فهو لا يدوِّن أحكامًا فقهيَّةً نهائيَّةً ولا قواعد "علميَّة" جامدة ولا حتى مقولات كلاميَّة شققها الجدل من قلب مقولات بشريَّة. إنه يدوِّن حياةً حافلةً نابضةً بالحركة الجوَّانيَّة والبرَّانيَّة؛ حياة سعت للاستقامة على مراد الله المبيَّن بوحيه. وهو تدوينٌ ذو طبيعةٍ خاصَّةٍ، سنبسطها بعد بيان نوعي التدوين: فنوعٌ منه يُستكمل به قصور الحركة الإنسانيَّة الحيَّة ليدفعها في عالم الشهود بمددٍ من عالم الغيب، ونوعٌ آخر يحلُّ محلَّ الحركة في حسِّ الكاتب وشعور المثقف؛ فيسكُن به إلى أنه قد أعذر إلى الله وانتهت مهمته. الأول صورة من صور المكابدة داخل التاريخ، فهي زادٌ للحركة على خُطى المعصوم صلى الله عليه وسلم، والثاني حركةٌ في المكان أو توهُّمٌ للحركة. الأول جزءٌ لا يتجزأ من الحركة الإنسانيَّة ولا يُغني عنها، والثاني سكونٌ لتلك الحركة وخمودٌ. إن أحدهما محاولةٌ لتصوير حياةٍ لا تكُفُّ أبدًا عن السعي لاستقبال القبلة والآخر صادرٌ عن ميِّت وضعه المشيِّعون باتجاه القبلة.
إن نصوص قُطبٍ موجَّهةٌ للإنسان – أينما كان– ثُنائي البُعد، الذي يستطيع إدراك المجاز والانتباه للظلال، أما نصوص ابن نبي فإنها موجهةٌ للتنفيذيين، وللأذكياء من التكنوقراط. إن قطب يُعلِّمك كيف تشعر، وكيف تفكِّر، وكيف تبني علاقاتك مع الله ثم مع الوجود كإنسانٍ. إنه لا يحرص إلا على رُقيِّك كإنسان، أما ابن نبي، فإنه يرسم لك طريقًا لتعظيم استخدام مواردك، ولكيفية توظيف عناصر الوجود: الإنسان، والتراب، والوقت. فهو يتعامل مع الإنسان باعتباره "عنصرًا" يتعيَّن توظيفه!
إن "مشروع" قُطبٍ هو تقرير خصائص التصوُّر الإسلامي للوجود، ومقوِّماته، بينما مشروع مالك يدور حول شروط "النهضة" الماديَّة باعتبارها هدفًا وغايةً، ومن ثم تعيين مكانة "المسلم" في عالميْ الاقتصاد والسياسة. إن قطبًا مهمومٌ بتكوين وتشكيل الإنسان الذي سيعرُج إلى الله، بينما مالك لا همَّ له سوى توظيفه على الأرض. لذلك تجد قطبًا يجذب أصحاب المشروعات الإنسانيَّة والأخلاقيَّة والاجتماعيَّة من المفكِّرين والمصلحين أصحاب الرؤية القرآنية. بينما يجتذب مالك بن نبي المهنيين، وأصحاب النشاطات السياسيَّة الآنيَّة ذات الطبيعة الطوباويَّة. لهذا السبب قد ينطبق على سيِّد قطب في المرحلة الثانية من حياته – مع كثيرٍ من التجاوز – وصف محمد حسنين هيكل للإمام الخميني؛ بأنه "رصاصةٌ انطلقت من القرن السابع الميلادي إلى صدر القرن العشرين"؛ رصاصةٌ انطلقت من ظلال البعثة النبويَّة إلى صدر جاهليَّة القرن العشرين. أما ابن نبي فهو حداثي من أبناء القرن العشرين؛ عملي براغماتي يهتم بالإجراءات بشكلٍ مفرطٍ.
وربَّما لهذا أُعجب محمود شاكر بنموذج ابن نبي وظاهرته "القرآنيَّة" ... برغم تحفُّظه ذي الطبيعة الشعوبيَّة!
فشاكر هو الآخر صاحب تصوُّرٍ سكوني أيقوني للغة والوجود، لكنه سكونٌ عضويٌّ فيروسي مُرتبطٌ بالانسحاب من المجتمع، وليس سكونًا آليًّا ذا طبيعةٍ توسُّعيَّةٍ/إمبريالية مثل ابن نبي. وثمة فارقٌ بين السكون عند ابن نبي وسكون شاكرٍ. فالحركة البرَّانية المحضة التي تبدأ من الوجود البرَّاني لتُعيد به تشكيل الجوَّاني عند مالك هو "سكون" فيه توهُّمٌ للحركة، بما أنه ليس حركةً على مراد الله. أما عند شاكر فإنه تصوُّرٌ انسحابيٌّ كاملٌ لا حركة فيه؛ تصوُّرٌ غرضه انسحاب الأجزاء من الوجود والتحامها بشكلٍ جنينيٍّ في رحم الفردوس المتوهَّم؛ التحامها لتُشكِّل أيقونةً نهائيَّةً. (لمزيد من التفاصيل؛ راجع الفصل الذي عقدته تحت عنوان: الحركة والسكون) ولهذا كان تبنِّي شاكر لأيديولوجيَّة ذات طبيعة قوميَّة مفهومًا في هذا السياق. وإذا كان مالكٌ يسعى لتجريد عناصر "فردوسٍ أرضيٍّ" برَّاني، فإن شاكرًا قد شكَّل فردوسه الأرضي الخاص بين حروف العربيَّة، فصار عالةً عليها.
فشاكر هو الآخر صاحب تصوُّرٍ سكوني أيقوني للغة والوجود، لكنه سكونٌ عضويٌّ فيروسي مُرتبطٌ بالانسحاب من المجتمع، وليس سكونًا آليًّا ذا طبيعةٍ توسُّعيَّةٍ/إمبريالية مثل ابن نبي. وثمة فارقٌ بين السكون عند ابن نبي وسكون شاكرٍ. فالحركة البرَّانية المحضة التي تبدأ من الوجود البرَّاني لتُعيد به تشكيل الجوَّاني عند مالك هو "سكون" فيه توهُّمٌ للحركة، بما أنه ليس حركةً على مراد الله. أما عند شاكر فإنه تصوُّرٌ انسحابيٌّ كاملٌ لا حركة فيه؛ تصوُّرٌ غرضه انسحاب الأجزاء من الوجود والتحامها بشكلٍ جنينيٍّ في رحم الفردوس المتوهَّم؛ التحامها لتُشكِّل أيقونةً نهائيَّةً. (لمزيد من التفاصيل؛ راجع الفصل الذي عقدته تحت عنوان: الحركة والسكون) ولهذا كان تبنِّي شاكر لأيديولوجيَّة ذات طبيعة قوميَّة مفهومًا في هذا السياق. وإذا كان مالكٌ يسعى لتجريد عناصر "فردوسٍ أرضيٍّ" برَّاني، فإن شاكرًا قد شكَّل فردوسه الأرضي الخاص بين حروف العربيَّة، فصار عالةً عليها.
إن الحركة الإنسانيَّة التي يستقيم بها التوحيد في النفس والوجود ليس لها سوى معنًى واحدٍ؛ موافقة مراد الله بالعروج إليه، عروجًا يضبط وجهة وطبيعة الحركة الأفقيَّة على الأرض. ولذلك صورةٌ واحدةٌ: الحركة الجوَّانيَّة التي تُشكِّل الذات ثم الوجود، بخروج النفس من رحم أوهامها إلى العالم بدعوة الله في نفسها وبنفسها.
وتصوُّر محمود شاكر سكوني محضٌ يكره الحركة بشكلٍ لا عقلاني وهو ما ورثه عنه أكثر المتمسلفة. إنه سكون يتجلى في انهمامه المفرط بالتفاصيل اللغوية الدقيقة والفسيفساء المعرفيَّة الأيقونيَّة التي تمُيِّز عمليَّة تحقيق النصوص التراثيَّة. ولا غرو، فقد كان يحفظ قاموس لسان العرب عن ظهر قلبٍ، في حين لم يمارس اللغة ولا حتى في حياته الخاصة؛ فلم يُشكل نسقًا مُتحركًا نابضًا بالحياة، وكان انهمامه باللغة انغماسًا كُليًّا بالجزئيات بغير رؤيةٍ كليَّةٍ. ومن ثمَّ فأكثر المعجبين به هم ممن يتبنون تصوُّره السكوني ولو بشكلٍ غير واعٍ. سواءٌ كان سكونًا عضويًّا كسكونه هو أو سكونًا آليًّا موهوم الحركة مثل ابن نبي، أو حتى مزيجًا من هذا وذاك.
كان شاكرٌ متنًا لُغويًّا "مُحكمًا" كمتون البلاغة التي حققها، متنٌ راكدٌ قد يُفيد في الدراسة اللغوية النظريَّة لنماذج مُختبريَّة ساكنة أو حتى ميتة، لكنه لا يفيد في تشكيل الوجود. لقد أبحر سيِّد في عقل الجُرجاني فجرَّد من إنتاجه ما شكَّل به منهجه في النظر، أما شاكر فقد اكتفى بالنقل الإخباري الأمين! وحتى الشعر القليل الذي نظمه شاكر، فقد حرص فيه على دقَّة الصنعة التي تُضاهي القدماء أكثر من حرصه على إبراز وجدانه "الحيِّ". وفي هذا الإطار يمكن تفسير عدائه الشديد للإخوان، برغم أنه صاحب تصوُّر حزبي هو الآخر؛ تصوُّر حزبي القوميَّة أهم ملامحه. لقد كان شاكرٌ مُعاديًا لما قد يكسر الركود الحزبي بتوتُّرٍ حركي ولو كان صادرًا عن النسق الحزبي ذاته ... إنها "كهانةٌ سكونيَّةٌ"!
إن النسق القومي الذي تبنَّاه شاكر هو أيضًا أحد تجليات تعامُله السكوني مع اللغة –ولو بشكلٍ غير واعٍ- باعتبارها نسقًا "معرفيًّا" نهائيًّا تحلُّ فيه الحقيقة كما يذهب نيتشه؛ أحد كُتَّاب ابن نبي المفضَّلين! فجاءت كل كتاباته كردود أفعالٍ من حيث هي ذودٌ عن حالة السكون التي قبع فيها. ولعل في أشهر ما كتب، مقالاته في الرد على لويس عوض؛ مثالٌ جليٌّ على ذلك. فلم يُقدم شاكر على كتابة هذه المقالات إلا حين "هزَّ" عوض صورة "الأفندي" الحداثيَّة مُلقبًا إياه بـ"الشيخ" شاكر هُزُوًا، فانتفض شاكرٌ دفاعًا عن صورته التي حرص على سكونها واستقرارها. لذا كان من الطبيعي أيضًا ألا يصدر عن نسق شاكر اللغوي أدنى جهد معرفي تأسيسي، لا أقول كنسق تشقيق الكلام البشري في الذات والصفات عند الجرجاني الأشعري الذي حقق كتابيه، ولكن كالنسق الأدبي الرقراق لشيخه مصطفى صادق الرافعي.
كانت اللغة العربيَّة عند شاكر طوبيا وفردوسًا أرضيًّا يلوذ به من حركة لم يَعِ أنماطها، بل وهرب منها ومن تبعاتها هروبه من الجامعة إلى التراث ومن طه حسين إلى المتنبِّي! لكنها عند قطب كانت طريقًا سلكه ليصل إلى الفردوس ... إلى الحياة بالقرآن.
وشتان بين التركيبة النفسية لطالبٍ يقترح تعديلات على المناهج الدراسيَّة، وبين من يهرب من الجامعة وينسحب من الوجود إلى داخل نفسه. الأول يُكابد داخل التاريخ والثاني يهرُب منه إلى طوبيا متوهَّمة؛ وهي المقولة التفسيريَّة الأهم في هذه "المقارنة".
*****
لقد برز مشروع قطب في لحظةٍ تاريخيَّةٍ حاسمةٍ؛ لحظة كان المثقف المسلم يتخبَّط في دياجير الأفكار والفلسفات الماديَّة، ويُعاني المخلصون فيها الاستلاب بسبب غُربة الرؤية، والفكر، والمصطلح. لحظة أسرٍ لمنجز دخيل مُقتَطع من سياقاتٍ معرفيَّةٍ وتاريخيَّةٍ غريبةٍ كُلِّيًّا. لقد جاء قُطب ليقول لهم إن مصدر المعارف الكُليَّة في الإسلام هو الوحي، وإن الرؤية الكونيَّة المبنيَّة على الحياة بالوحي فقط (بتمييزه عن التراث البشري في فهم الوحي) هي ما يمنح المعرفة صفتها الإسلاميَّة. أما وَهْم أسلمة المعرفة الغربيَّة فهو خطيئةٌ لن تؤدي إلا إلى كارثةٍ. معرفة سكونيَّة يتم استيرادها من سياقٍ جاهليٍّ لتتدثر بلبوس الإسلام! فالمصطلحات والأفكار تنتقل مُحمَّلةً بظلالٍ معرفيَّةٍ وثقافيَّةٍ، ومثقلةً بميراثها واستخدامها السياسيِّ والاجتماعي. لذا فإن محاولة "تشويه" الحقل الدلالي لها بإضفاء ظلال إسلاميَّة عليها لا يُفرِّغها من محتواها، ولا يحدُّ كذلك من خطرها.
*****
لقد برز مشروع قطب في لحظةٍ تاريخيَّةٍ حاسمةٍ؛ لحظة كان المثقف المسلم يتخبَّط في دياجير الأفكار والفلسفات الماديَّة، ويُعاني المخلصون فيها الاستلاب بسبب غُربة الرؤية، والفكر، والمصطلح. لحظة أسرٍ لمنجز دخيل مُقتَطع من سياقاتٍ معرفيَّةٍ وتاريخيَّةٍ غريبةٍ كُلِّيًّا. لقد جاء قُطب ليقول لهم إن مصدر المعارف الكُليَّة في الإسلام هو الوحي، وإن الرؤية الكونيَّة المبنيَّة على الحياة بالوحي فقط (بتمييزه عن التراث البشري في فهم الوحي) هي ما يمنح المعرفة صفتها الإسلاميَّة. أما وَهْم أسلمة المعرفة الغربيَّة فهو خطيئةٌ لن تؤدي إلا إلى كارثةٍ. معرفة سكونيَّة يتم استيرادها من سياقٍ جاهليٍّ لتتدثر بلبوس الإسلام! فالمصطلحات والأفكار تنتقل مُحمَّلةً بظلالٍ معرفيَّةٍ وثقافيَّةٍ، ومثقلةً بميراثها واستخدامها السياسيِّ والاجتماعي. لذا فإن محاولة "تشويه" الحقل الدلالي لها بإضفاء ظلال إسلاميَّة عليها لا يُفرِّغها من محتواها، ولا يحدُّ كذلك من خطرها.
إن إنجاز قطب الأعظم على الإطلاق هو ما أُسمِّيه: "استعادة المصطلح القُرآني" لساحة التداول الفكري العالمي. إنه مُصطلحٌ يتجاوز ضيق استعماله التراثي الفقهي والكلامي، فهو الأصل الأرحب دلالةً وظلالًا؛ الأصل الحيُّ النابض في مشاهد السيرة النبوية على وجه الخصوص. إنه الأصل الذي تُدرِك من خلاله الأمَّة أنها تتحرك في رحلة عروجٍ دائمةٍ إلى الله داخل الوحي، ولا تتحرك حركةً دائريَّةً عبثيَّةً (متوهَّمة) في الطبيعة أو داخل نصوصٍ بشريَّةٍ تاريخانيَّة. وهو إنجازٌ لا يُمكن أن يُطوِّره أو يستفيد منه مَن يعبثون بالمفاهيم الغربيَّة محاولين أسلمتها برغم أنها لا تُعبِّر عن تجربتنا التاريخيَّة. إنهم أصلًا لا يُدركون قيمة هذا المنجز المعرفي. إنهم أسرى التجربة الغربيَّة؛ يدركون العالم بلغةٍ مختلفةٍ تمامًا ... لُغة خلاسيَّة لا شرقيَّة ولا غربيَّة.
لقد كانت حياة سيِّد في ظلال القرآن الكريم نعمةً كُبرى. نعمة تعلَّم منها أن المقررات المسبقة التي يتلقى بها الكثيرون القرآن إنما تحرمهم من حُسن التلقِّي وحرارة التلقِّي ونبض التلقِّي وحيويَّة التلقِّي وآثار التلقِّي وقوَّة دفع التلقِّي. فالقرآن لا بُدَّ أن يُتلقَّى بروح التدبُّر والإذعان الواجبين والكاملين للخطاب الإلهي. يجب أن يُتلقَّى بغير مُقررات معرفيَّة أو فلسفية أو سياسية، بدون أي مقررات نظريَّة وضعية سكونيَّة على الإطلاق، فهذه المقررات تُكبِّله لفورها وتُضفي عليه طابعًا لاهوتيًّا سكونيًّا وتجعل تلقِّيه عقلانيًا سكونيًّا باردًا لا ينبني عليه عملٌ بما أنه لم يتحرك به الوجدان.كان سيِّد مؤمنًا بأننا يجب ألا نتلقى القرآن بشكل مقارنٍ، ولا أن نتلقاه كمعرفةٍ ثقافيةٍ مجرَّدةٍ، ولا أن نتلقاه للتذوق الأدبي فحسب، ولا أن نتلقاه للتبرُّك، ولا أن نتلقاه لنتلوه في المآتم وفوق شواهد القبور. بل أن نتلقاه كحياةٍ كاملةٍ نابضةٍ بالطاعة، حياة ابتُعث الإنسان ليُجسِّدها على الأرض. أن نتلقاه باعتباره كلمةَ الله الأخيرة إلى الأرض. لقد كان جُلُّ مشروعه هو قراءة القرآن كأنه أُنزِل عليه، فهذا يضع الإنسان في موضع المخَاطَب مباشرةً بلا وسيطٍ، فيتلقى التكليف مُباشرةً، ويحمل مسئوليته عن وعيٍ وإدراكٍ وإرادةٍ: "لقد عشت أسمع الله سبحانه يتحدث إلي بهذا القرآن ... أنا العبد القليل الصغير ... أيُّ تكريمٍ للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل. أيُّ رفعةٍ للعمر يرفعها هذا التنزيل. أي مقامٍ كريم يتفضَّل به على الإنسان خالقه الكريم". لقد قرأ الرجل القرآن بهذه الشروط، لذا فلا يمكن أبدًا إدراك النتيجة التي وصل إليها إلا بقراءة القرآن بنفس الشروط. وهو الأمر الذي لا تستطيعه إلا القلَّة حسبما تخبرنا تجارب التاريخ؛ قلَّةٌ فحسب هي التي تستطيع قراءة القرآن بهذه الدرجة الفريدة من التجرُّد الروحي من أثقال الجاهليَّة.
وربما كان محمَّد أسد (ليوبولد فايس) أحد أشهر المعاصرين من هذه القلَّة الفذَّة؛ خصوصًا في المرحلة الأولى من حياته. إن قُرَّاء قطب، ومَن يتأوَّلون كلماته ويلوون أعناقها، هم أكثر الناس حاجةً لقراءة تجربة أسد الفريدة؛ لإدراك كيفية انسلاخ الإنسان المعاصر شعوريًّا من ميراثه الثقافي والفلسفيِّ والسياسي والمعرفيِّ الوضعي؛ ليتلقَّى القرآن "مُجرَّدًا" من كُلِّ رأيٍ، يتلقَّاه مُرهِفًا وجوده كُلَّه؛ فتتحرك حواسه ووجدانه وتربو روحه بهذه القراءة، كأنما تُبعث فيه الحياة بعد موات.
وربما كان محمَّد أسد (ليوبولد فايس) أحد أشهر المعاصرين من هذه القلَّة الفذَّة؛ خصوصًا في المرحلة الأولى من حياته. إن قُرَّاء قطب، ومَن يتأوَّلون كلماته ويلوون أعناقها، هم أكثر الناس حاجةً لقراءة تجربة أسد الفريدة؛ لإدراك كيفية انسلاخ الإنسان المعاصر شعوريًّا من ميراثه الثقافي والفلسفيِّ والسياسي والمعرفيِّ الوضعي؛ ليتلقَّى القرآن "مُجرَّدًا" من كُلِّ رأيٍ، يتلقَّاه مُرهِفًا وجوده كُلَّه؛ فتتحرك حواسه ووجدانه وتربو روحه بهذه القراءة، كأنما تُبعث فيه الحياة بعد موات.
إن منهج تلقي الوحي هو المحك. وأكثر "الإسلاميين" يقرءون القرآن لغرضٍ فرعيٍّ وهدفٍ سكونيٍّ من الأغراض التي أسلفنا. يقرءون القرآن تحت تأثير التجربة التاريخية الضاغطة، وبوحي الحاجة السياسيَّة الملحَّة، فتنقلب الموازين في أعينهم؛ ليُهيمن التاريخ على الوحي، وتحلُّ المرجعيَّة في الوضع القائم، فيفقد التكليف معناه. بل يفقد الوجود كله معناه في قبضة الصيرورة الباردة. إنه إن كان "الإسلاميون" يعانون بهذا الشكل في فهم سيِّد قطب، فيشتط بعضُهم مُكفرًا الناس، ويشتط آخرون مُتهمين الرجل بتكفير الناس، فإن العلمانيين – وغير المسلمين بالتبعيَّة – هم أكثر الناس بُعدًا عن احتمال – مجرَّد احتمال! – فهم مرامي الرجل، وإدراك جوهر مشروعه. إنهُم أساسًا عجزوا عن فهم خصوصيَّة الحالة الإسلاميَّة المعاصرة، فكيف بأخص خصائصها!
*****
إن من الإنسانيَّة أن نقول إن الإنسان مسئول عن أفعاله وأن نحاسبه عليها. وليس من الإنسانية أن نطلب منه أن يتأسف أو أن يغير رأيه، أن يتحسَّن، وأن يُصفح عنه. إنها أكثر إنسانيَّة أن يُعاقب الإنسان بسبب مُعتقداته من إجباره على التخلي عنها، أو التبرؤ منها. - علي عزت بيغوفيتش.
*****
لقد عجز الكثيرون عن فهم أبعاد الصراع الذي خاضه سيِّد قطب قبل حوالي خمسين عامًا، ولا يزال هذا العجز عن الفهم مُتسيِّدًا المشهد الفكري. ذلك أن الصراع الذي أدَّى لاستشهاده، والذي يُعتبر قلب مشروعه الفكري – بناء الإنسان الربَّاني– لا زال يُعتبر مُجرَّد معركةٍ "سياسيَّةٍ" غير محسوبة بين سُلطة "شرعيَّةٍ"، وقلَّة من "الخارجين" عليها. مجرَّد معركة يحصل فيها المنتصر على كل شيءٍ بدءًا "بحق" تزوير التاريخ، وانتهاءً "بحق" تقويض الإنسان، ولا يحصل المهزوم – بالمعايير الماديَّة الآنيَّة – على أيِّ شيءٍ، حتى لو كان فرصةً للعق الجراح.
*****
إن من الإنسانيَّة أن نقول إن الإنسان مسئول عن أفعاله وأن نحاسبه عليها. وليس من الإنسانية أن نطلب منه أن يتأسف أو أن يغير رأيه، أن يتحسَّن، وأن يُصفح عنه. إنها أكثر إنسانيَّة أن يُعاقب الإنسان بسبب مُعتقداته من إجباره على التخلي عنها، أو التبرؤ منها. - علي عزت بيغوفيتش.
*****
لقد عجز الكثيرون عن فهم أبعاد الصراع الذي خاضه سيِّد قطب قبل حوالي خمسين عامًا، ولا يزال هذا العجز عن الفهم مُتسيِّدًا المشهد الفكري. ذلك أن الصراع الذي أدَّى لاستشهاده، والذي يُعتبر قلب مشروعه الفكري – بناء الإنسان الربَّاني– لا زال يُعتبر مُجرَّد معركةٍ "سياسيَّةٍ" غير محسوبة بين سُلطة "شرعيَّةٍ"، وقلَّة من "الخارجين" عليها. مجرَّد معركة يحصل فيها المنتصر على كل شيءٍ بدءًا "بحق" تزوير التاريخ، وانتهاءً "بحق" تقويض الإنسان، ولا يحصل المهزوم – بالمعايير الماديَّة الآنيَّة – على أيِّ شيءٍ، حتى لو كان فرصةً للعق الجراح.
ولعلَّ ضراوة الملاحقة الأمنيَّة والاستخباراتيَّة للرجل حيًّا، ولفكره شهيدًا هي أحد أهمِّ أسباب هذا الوضع المزري الذي يدفع بأغلب المثقفين، بل والفقهاء؛ لتبني القراءة الأمنيَّة للرجل، واستبطان النموذج الأمني – لا إراديًّا في بعض الأحيان! – والذي يُصنِّفه بقوَّة البطش باعتباره خارجيًّا تكفيريًّا؛ مُنحرفًا عمَّا يُسمَّى بالتيار العام لـ"أهل السنَّة والجماعة". فلا يُذكر رحمه الله إلا وتعلو وجوه من يخشون الناس كخشية الله - أو أشدَّ خشيةً!- صُفرة الرعب، وترتجف الشفاه محوقلةً في فزعٍ، ومُردِّدةً كالببغاوات ما لُقِّنته من تُرَّهات الدعايات الأمنيَّة منذ الحقبة الناصريَّة؛ وهي لائحةٌ طويلةٌ من الاتهامات الجاهزة التي يُجيد الكثيرون استدعاء ما يؤيدها –حسب فهمهم السقيم- من الاستشهادات النصيَّة المقتطعة من سياقاتها في كتاباته التي ملأت الدنيا، وتُرجمت لعشرات اللغات الحيَّة، والتي طبعت – ولا زالت تُطبع – عشرات الطبعات سنويًّا. إن حجاب القراءة الأمنية لفكر قطب، وهي القراءة التي تبنَّاها الإعلام ومثقفو الدولة- الصنم ثم مثقفو الإسلاميين؛ وتلقفتها أجيال مُعمَّاة بغير تبصُّرٍ ولا تمحيصٍ؛ هو السبب الأهم والأكثر ذيوعًا، والذي يحول دون الكثيرين والإفادة من كتابات قطب.
السبب الثاني الذي يحول دون حُسن التعاطي مع كتابات الشهيد –بإذن الله– سيِّد قطب، هو سببٌ لُغويٌّ معرفي مُركَّب. فقد كان الرجل أديبًا لغويًّا فذًّا صاحب عقليَّة قرآنيَّة لا مثيل لها بين معاصريه، مُتمكنًا غاية التمكُّن من أدواته. فهو صاحب خطاب مجازي يحتمل التأويل على وجوهٍ عدَّةٍ. لم يكن الرجل فقيهًا صاحب صنعةٍ، ولم يَدَّعِ الانحدار لذلك، بل كان مُعلمًا مُسلمًا من طرازٍ فريدٍ. لم يستخدم لغةً فقهيَّةً حرفيَّة جافَّة، بل استخدم ما هو أقرب للإنسان، وأكثر حميميَّةً بما لا يُقاس؛ لغة قرآنيَّة رفدها الوحي بمُعجم خاصٍّ. لقد كانت حياته في ظلال القرآن هي نصره الأبدي، وأزمته الدنيويَّة العارضة بذات الوقت. وقد حالت البنية المعرفيَّة الوضعيَّة الماديَّة للمتلقين، وانحطاط لُغتهم، ولا زالتا تحولان؛ دون اكتشاف "مشروع" قطب، لتتأجل المهمَّة إلى أجلٍ غير مُسمى. إن هذا الإشكال اللغوي والدلالي نابعٌ من طبيعة الخطاب المجازي للقرآن وأن كتاب الله نفسه حمَّال أوجُهٍ. والذهن العام لم ينحدر فقط للتعامل مع المجاز باعتبارِه زُخرفًا لفظيًّا زائدًا، بل انحدر لسان المعاصرين ومنطقهم اللغوي كذلك، لدركٍ حال بينهم وبين إدراك أكثر المرامي القرآنيَّة في محكم الآيات. فالأجيال التي رُبيت منذ الحقبة الناصريَّة انهارت لغتها مع انهيار الخطاب العام والخطاب السياسي ومستوى التعليم، ومال أكثرهم للغة مالك بن نبي الرياضيَّة الحرفيَّة المتشيئة؛ حتى صارت العقيدة تُدرَّس أحيانًا في صورة معادلات رياضيَّة نظريَّة.
لذا تبدو هذه الهوَّة "منطقيَّة" حين نضع أيدينا على الإنجاز الأهم لقطب: استعادة المصطلح القرآني وحمولته من التصوُّرات لساحة الفكر العالمي، وذلك بدلًا عن أسلمة مصطلحات ومفاهيم من بيئة حضاريَّة مختلفة؛ للتعبير عن التصوُّرات القرآنيَّة. إن المصطلحات الجديدة قد تجيد التعبير عن بعض الانتكاسات الفطريَّة المستجدَّة التي ليس لها تفصيل في المعجم القرآني، لكنها تفشل تمامًا في التعبير عن التصوُّر القرآني.
والإشكال الثالث والأخير الذي يحول بين الكثيرين وبين قطب هو الأخطر على الإطلاق؛ فهو إشكال ذو طبيعة عقديَّة، وهو مُتعلق بالطريقة التي تلقى بها سيِّد القرآن دون مقررات مُسبقة من أي نوعٍ. تلقاه باعتباره مراد الله من البشر. لم يتلقَّه للتذوُّق الأدبي أو للتغنِّي بتلاوته أو ليحتفظ به كمعرفةٍ ثقافيَّةٍ مُجرَّدةٍ، ولا ليُقارنه بمقرراتٍ وضعيَّةٍ. بل تلقاه باعتباره ناموسًا واجب النفاذ في النفس والمجتمع، فنال كل جواهره بالتبعية. تلقاه كأنه أُنزِل عليه، فامتثل مُستحضرًا مُعايشًا كأن ربَّ العزَّة يخاطبه مباشرةً. ليس هذا فحسب؛ بل عاش التكاليف وكابد في سبيل الاستقامة على مراد الله مُجاهدًا نفسه ومجتمعه، فكانت قراءته ربَّانيَّة مُنضبطة بمراد الله وبمنهج الموحى إليه صلى الله عليه وسلم، ولو كانت حافلةً بالأغلاط كأي قراءةٍ بشريَّةٍ محدودة القدرة بزمان ومكان. وكل ما وصل له قطب من نتائج وتصوُّرات كان عن طريق هذه القراءة فقط دون غيرها، فمن أراد استيعاب نسقه وطبيعة حركته والنتائج التي تمخَّض عنها؛ فعليه بالالتزام بشروط التلقي عينها، وسلوك عين السبيل.
*****
جانب آخر فريد ورثه سيِّد من الأدب فانطبع في فطرته وصقله القرآن وزكته الحركة على مراد الله؛ هو القدرة على تجاوز الواقع الجاهلي شعوريًّا مهما كان ثقله. فبعد ما يزيد على الخمسين عامًا لا زالت جاذبيَّة الدعاية الناصريَّة التعبويَّة تُبهر الكثيرين وتأسر ألبابهم برغم بُغضهم الواعي للنموذج. ولا زالت أغنياتها الوطنيَّة وبقايا صحافتها الناريَّة وسينماها الفريدة ومسرحها المغرق في الإنسانيَّة ومطبوعاتها نادرة المثال؛ لا زالت تثير الإعجاب! ولا زال الوعد بمركزيَّة مصر ووهم "الوحدة" القوميَّة يسلب الكثيرين ذواتهم، فالنماذج والتفسيرات الماديَّة مريحة للغاية.
*****
جانب آخر فريد ورثه سيِّد من الأدب فانطبع في فطرته وصقله القرآن وزكته الحركة على مراد الله؛ هو القدرة على تجاوز الواقع الجاهلي شعوريًّا مهما كان ثقله. فبعد ما يزيد على الخمسين عامًا لا زالت جاذبيَّة الدعاية الناصريَّة التعبويَّة تُبهر الكثيرين وتأسر ألبابهم برغم بُغضهم الواعي للنموذج. ولا زالت أغنياتها الوطنيَّة وبقايا صحافتها الناريَّة وسينماها الفريدة ومسرحها المغرق في الإنسانيَّة ومطبوعاتها نادرة المثال؛ لا زالت تثير الإعجاب! ولا زال الوعد بمركزيَّة مصر ووهم "الوحدة" القوميَّة يسلب الكثيرين ذواتهم، فالنماذج والتفسيرات الماديَّة مريحة للغاية.
إن أحد مكامن قوَّة سيِّد قطب أنه استطاع تجاوز ذلك كله شعوريًّا في ذروة عنفوان النموذج، برغم الثقل الهائل للواقع على الحسِّ والشعور الإنساني، فما بالك بواقع مُزيَّن مُزخرف بكل جميل! لم يتجاوزه فحسب، بل وأُريَ الزبد الذي مثَّله: " ... عشت في ظلال القرآن أنظر من علو إلى الجاهلية التي تموج في الأرض، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة .. أنظر إلى تعاجُب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال، وتصورات الأطفال، واهتمامات الأطفال .. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال، ومحاولات الأطفال، ولثغة الأطفال .. وأعجب .. ما بال هؤلاء الناس؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة، ولا يسمعون النداء العلوي الجليل. النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه".
وبرغم أنه انخرط في هذا الواقع الاجتماعي والسياسي كُليًّا، ككاتبٍ وناقدٍ وداعية إصلاحٍ؛ إلا أنه قد انعزل عن قيمه الجاهلية شعوريًّا واستعلى على تفاهته بإيمانه. وبرغم أنه كان جزءًا من التجربة –وأهم "ضحاياها"- لكنه خرج منها صافي الذهن مُطمئن الفؤاد؛ ينظر إليها باعتبارها لهوًا بدائيًّا وتعاجُبًا طفوليًّا. إن هذه القدرة على تجاوز الواقع بثقله لم تتأت مصادفةً، بل كانت نتيجةً للعُزلة الشعوريَّة. وكم من بعيدٍ عن قلب جاهليَّة زمانه مكانيًّا لكنه خاضعٌ لها شعوريًّا وعبدٌ لما تجسِّده! هذه العزلة المعرفية والقيمية والوجدانيَّة، الصادرة عن معرفةٍ وثيقةٍ بالجاهلية –معرفيًّا وقيميًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا- وتجلياتها؛ هي التي تحدد للإنسان ما يقبل من التصوُّرات وما يرفض. بل هي التي تُشكِّل التبعات الاجتماعية لقبول تصوُّرات الإسلام ورفض تخبطات الجاهليَّة.
*****
"العلم الكليُّ من العلوم الدينية هو الكلام، وسائر العلوم من الفقه وأصوله والتفسير والحديث؛ علوم جزئيِّة، لأن المفسِّر لا ينظر إلا في معنى الكتاب خاصَّة، والمحدِّث لا ينظر إلا في طريق ثبوت الحديث خاصَّة، والفقيه لا ينظر إلا في أحكام أفعال المكلَّفين خاصَّةً، والأصولي لا ينظر إلا في أدلة الأحكام الشرعية خاصَّةً، والمتكلم هو الذي ينظر في أعمِّ الأشياء وهو الموجود.
... فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة؛ إذ منه النزول إلى هذه الجزئيَّات". - حجَّة الإسلام الغزالي؛ المستصفى من علم الأصول.
*****
يعرف قراء سيِّد قطب كيف أهدر الرجل "علم" الكلام ورفضه رفضًا قاطعًا، برغم أن المتأمل لجمهرة كتاباته يجدها تنتمي في موضوعها ومنهجها للدرس الكلامي. لذا لزم التفرقة بين ما استقر عليه الاصطلاح بـ"علم" الكلام، وبين الدرس الكلامي ذاته. فربَّما كان هذا مُفسِّرًا لمنهج الرجل ومجال مشروعه.
*****
"العلم الكليُّ من العلوم الدينية هو الكلام، وسائر العلوم من الفقه وأصوله والتفسير والحديث؛ علوم جزئيِّة، لأن المفسِّر لا ينظر إلا في معنى الكتاب خاصَّة، والمحدِّث لا ينظر إلا في طريق ثبوت الحديث خاصَّة، والفقيه لا ينظر إلا في أحكام أفعال المكلَّفين خاصَّةً، والأصولي لا ينظر إلا في أدلة الأحكام الشرعية خاصَّةً، والمتكلم هو الذي ينظر في أعمِّ الأشياء وهو الموجود.
... فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة؛ إذ منه النزول إلى هذه الجزئيَّات". - حجَّة الإسلام الغزالي؛ المستصفى من علم الأصول.
*****
يعرف قراء سيِّد قطب كيف أهدر الرجل "علم" الكلام ورفضه رفضًا قاطعًا، برغم أن المتأمل لجمهرة كتاباته يجدها تنتمي في موضوعها ومنهجها للدرس الكلامي. لذا لزم التفرقة بين ما استقر عليه الاصطلاح بـ"علم" الكلام، وبين الدرس الكلامي ذاته. فربَّما كان هذا مُفسِّرًا لمنهج الرجل ومجال مشروعه.
وإذا كان سيِّد -رحمه الله- قد فرَّق بشكلٍ واضحٍ بين "الشريعة" التي دعا لحاكميتها وبين الفقه، فقصر استخدامه للفظ "الشريعة" على الوحي، واعتبر الفقه مادَّة استرشادية قد تُفيد كرصيد "قانوني/تشريعي" يجب ألا يُعيق إعادة الاجتهاد في فهم الوحي الإلهي في ضوء الواقع المتغيِّر وفي حدود التزام المحكمات وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن موقفه من "علم" الكلام لم يكن بمثل هذا الوضوح؛ ربما لأنه أراد إهدار المقولات الكلاميَّة الفرقيَّة بما أنها لاهوت بشري حلَّ محل الوحي فعلًا، وربَّما لأنه -رحمه الله- لم يكن واعيًا بأن عملية الدعوة إلى الله (باللسان) ذاتها تنتمي للدرس الكلامي بمفهومه الواسع، وربَّما هو مزيجٌ من السببين. لكن هناك سببًا آخر يزيد هذا الموقف غموضًا والتباسًا، ويُضفي حُجيَّةً على تخرُّصات المتفيقهين الذين ظنوا الفقه مدار كلامه، بما أنه نبذ "علم" الكلام وأهدره كُليًّا.
أحسب أن هذا السبب يكمُن في وعيه بأن "علم" الكلام بحد ذاته قد تحوَّل إلى بنيةٍ صلبةٍ ساكنة ميتة تعوق حركة الأمة؛ حركة المجتمع المسلم في العروج إلى الله. بعد إذ صار "النقاء" النظري للاعتقاد أولى من محاولة الاستقامة عليه. وإذا كان ضبط الأداء الإنساني البرَّاني ممكنًا في الخطوط العريضة بنصوص محكمة واجتهادات ثابتة في مسائل العبادات على وجه الخصوص، فإن هذا "الضبط" غير ممكن للمجال الجوَّاني؛ مجال الحريَّة الإنسانيَّة ومناط التكليف الفردي. إن استقامة هذا المجال على مراد الله بدوام تزكية النفس هو الذي يُشكِّل واقع الفرد والمجتمع المسلم وحركتهما، ومن ثمَّ يغدو الميراث الفقهي ذا أهميَّة ثانويَّة إذا احتفظ المسلم بعلاقة حيَّة مع الوحي طوال حركته داخل التاريخ. ذلك أنه سيجد نفسه محتاجًا للاجتهاد، وقادرًا عليه ما استقامت حركته البرَّانيَّة والجوَّانيَّة على مراد الله، ومن ثمَّ تسقُط مركزيَّة المذهبيَّة الفقهيَّة بسقوط مركزيَّة مذهبيَّة الاعتقاد وسكونها.
إن "الاعتقاد" في الرؤية المذهبية هو "مقام" نهائيٌّ بلغة الصوفية؛ إطارٌ نظري يصيرُ الإنسان "مُسلمًا" بمجرَّد فهمه واستيعابه، وربَّما باستظهاره. فقد أسقطت صيرورة المكابدة في هذا التصوُّر. إذ المكابدة هنا في تحقق المعرفة "النهائية" فقط، لا في محاولة الاستقامة على هذه المعرفة النسبيَّة التي تتحقق للإنسان. إنها مكابدةٌ موهومةٌ. فهي إنكارٌ لنسبيَّة المعرفة، وللمكابدة الإنسانيَّة التاريخيَّة في محاولة الاستقامة على هذه "المعرفة"، والوفاء بمقتضياتها. وهذه طبيعة كل التصوُّرات النظريَّة، ولو كان أصلها الوحي الحيَّ. فالتأويل البشري يتحول لنموذج نظري إذا دُوِّن، لتعوج بعدها الحركة المنبثقة من هذا الإطار النظري المقيَّد بأفهام الزمان والمكان، وتظهر انحرافات التطبيق التي تأخذ في التزايُد بابتعادها عن الأصل النظري الذي كبَّلته أفهام البشر. حتى ينتهي المآل بالتخلِّي الكامل عن التصوُّر النظري في سبيل التماهي مع الواقع.
لهذا رفض سيِّد "علم" الكلام وأهدره كلَّه، لكنَّه لم يرفض الآلة الكلاميَّة ذاتها. لقد رفض المقولات البشريَّة الجامدة التي شققها الجدل وشكَّلها الواقع التاريخي؛ رفضها لأنها حجبت الوحي وتحوَّلت لبديل عن الحركة على مراد الله. فقد صار الإسلام –حتى في حسِّ العوام- معرفة بالدين؛ لا محاولة للاستقامة على مقتضياته. صار الإسلام معرفة بالأصول "النظريَّة" لا مُكابدة للتحقُّق بالوحي الإلهي. وصار القرآن زينةً للعمارة، بعد أن خلت منه النفوس. إن هذا يُناقض تصوُّر سيِّد عن الحركة بالكُليَّة؛ الحركة الإنسانيَّة التاريخية التي تستمدُّ من الوحي وقودها الفعَّال والأوحد، ولو انحرفت في فهمه. فالانحراف في تأويل الوحي وفشل محاولات الاستقامة عليه أكثر ربَّانيَّة من الولوغ في تيه المقولات والتأويلات والفرضيَّات البشريَّة؛ ذلك أن إخلاص الوجه لله يكفُل له جزاء المجتهد المخطئ، إن لم يُقدر له بعض الاستقامة بصحَّة بعض الاجتهاد.
لقد رفض قطب التعامُل مع المعرفة البشريَّة في الفقه والكلام بأنها معرفة نهائيَّة، وإن كان هذا لم يُخفف من نبرة اليقين في لغته؛ لكنه ليس اليقين في النفس والاستعلاء بها، بل اليقين في هُدى الله ورحمته بعباده، والاستعلاء على تُرهَّات البشر بما أنزله الله في كتابه، لا بما وقع في النفس من هذا القرآن. إنه استعلاءٌ بالوجهة وعصمتها لا بالوجه القاصر الذي تولَّى، وشتَّان! وقد كان سيِّد واضحًا كل الوضوح في ديمومة الإشارة للمصدر والإحالة على الوحي؛ حتى لقد صرَّح غير مرَّة بأنه لولا الحُجب التي رانت على قلوب الناس وألسنتهم، لما تردد في نقل الآيات كما هي بغير تدخُّل منه ولا تعليق يُشير لمجالها الدلالي وأسباب نزولها وإسقاطاتها على الواقع.
لقد رفض سيِّد المقولات الاعتقاديَّة النهائيَّة التي رأى أنها ستُكبِّل حركته كمسلم. رفضها وسعى لتشكيل مقولاته الخاصَّة مُستمِدًّا الأصول كلَّها من الوحي مباشرةً. لقد سعى لتشكيل مقولاته بالحركة وتشكيل الحركة بالمقولات كما كان يصف الجماعة الإيمانيَّة الأولى التي أنشأها القرآن بالعقيدة كما نشَّأ العقيدة في الأرض بهذه الجماعة. إن العقيدة التي تتشكَّل وتتبلور على الأوراق وفي الجدل المذهبي الذهني هي استنبات للبذور في الهواء؛ قد يكون فيها بعض الإسلام، لكنها ليست هي الإسلام الذي أُخرجت به هذه الأمة من العدم!
ولذا؛ فأصحاب الدعوة إلى دين الله حريٌّ بهم التنبُّه إلى هذه الحقيقة البدهيَّة: إن إعادة الأمَّة إلى مجالها التاريخي الذي خرجت منه لن يكون باستظهار مقولات السابقين في الذات والصفات؛ فهذا في حدِّ ذاته سكون يُوقِف الحركة بمعرفةٍ نهائيَّةٍ وركود يعوق تدفُّق الدعوة بالجدل المذهبي. إن هذه المقولات قد تصلُح للدرس النظري، وقد تصلح للعبرة، لكنها لا تصلح حاديًا لأمة الوحي سواء للخروج من أزمتها التاريخية أو لاستعادة دورها الذي ابتُعثت لأجله.
إن المقولات الزمنية التي ستُصدرها أيَّة جماعة بشرية تسعى للاستقامة على مراد الله سوف تتكلس هي الأخرى وتصير أيديولوجيا نهائية في حسِّ مُعتنقيها حين يبلغ النسق أوجه المعرفي وتبلغ الحركة ذُروتها التاريخية؛ لهذا يتعيَّن على كل حركة جديدة البدء من الوحي وإن تعلَّق نظرها بمن سبقها؛ ليس لأن هذا سيعصمها من التكلُّس والركود الحتميين، بل لأنه سيؤخِّرهُما قدر الإمكان ... تأخيرًا يؤجَر به الجيل في الحالين بإذن الله.
لقد رفض سيِّد أي استخدام مركزي للمصطلحات الساكنة المجرَّدة –مشروع، مفهوم، منهج، نظرية- كما رفض دلالاتها. فالمعرفة التي "تتطلب" التدوين والتراكم والتنظير هي المعارف الإجرائية الوظيفية التي تُسهم في ضبط الواقع البرَّاني وبناء "الحضارة" الماديَّة. إنها المعرفة التي تُيسِّر حركة الإنسان في الطبيعة حتى لا تبدأ كل حركة جديدة على الأرض من الصفر، من صفحةٍ بيضاء! أما معرفة الله والاستقامة على أمره فليست "معرفة" نظرية تتم مراكمتها وتحصيلها من الكتب ولا من الفقهاء ولا من المتكلِّمين!
إن المصطفى المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، وهو القدوة والمثل الأعلى؛ لم يكن يُراكم معرفة "نظرية" لتُسهم في السيطرة على الواقع المادي ولا في تنظيم حركته بشكلٍ مجرَّد؛ بل كان صلى الله عليه وسلم قرآنًا يمشي على الأرض كما وصفته أم المؤمنين عائشة. وهذا يعني أنه تلقى القرآن لا ليدرسه دراسةً مجردةً بل ليعيشه، فتحقق بالاستقامة على مراد الله منه، وليس بمعرفةٍ نظريَّةٍ! وربما لهذا أُصطفي المصطفى أُميًّا لا يدون ولا ينظر في كتب الأولين، بل وصحَّ أنه نهى عن كتابة الحديث النبوي لئلا يختلط بالقرآن. برغم أن السيرة والسنة هما التجسيد العملي للقرآن. لكن المطلوب هو تشرُّب الوحي من الكتاب وتمثُّله باحتذاء سلوك النبي.
فالكتاب واحد، والسنَّة مسلك النبيِّ على مُقتضى الكتاب. وما تم تدوين السنة سوى خشية ضياعها. ولعل هذا التدوين قد حفظها مكتوبةً وقلَّص وجودها العملي في الواقع، بأن جعلها تحلُّ في الكتب محلَّها في سلوك المسلمين اليومي، وهذا شبيه بـ"نمو" الاعتقادات النظريَّة على صفحات الكتب وفي المناظرات.
وربما لهذا أيضًا لم يُفكر أي من الخلفاء الراشدين الأربعة وطبقتهم في تدوين السنة النبوية، ولا في تدوين اجتهاداتهم ولا اجتهادات إخوانهم. فقد كانت الحركة والسلوك العملي هي الأولويَّة التي يُكبلها التدوين، ولا يجدر بمسلم التقيُّد بغير كتابٍ واحدٍ. فبناء "الحضارة" الماديَّة هو الذي يقتضي "التقيُّد" بمتون أخرى مع القرآن. وكل متنٍ فقهي/كلامي يُكبِّل الحركة الدعوية؛ يُسهِم بذات القدر في اتخاذ المصانع والمنازل والمعابد الشاهقة كبديل عن الحركة بالدعوة في كلِّ الأرض!
إن كُلَّ حقيقة يتم تدوينها، فهذا يعني انسحابها من النفس بقدرٍ ومن المجتمع بقدرٍ أكبر. وما جُعل التدوين إلا خشية الضياع؛ حتى انحدرنا لدرك تدوين أحوال القلوب بعد أن أقفرت الأمَّة، أو كادت؛ من القلوب!
إن كُلَّ حقيقة يتم تدوينها، فهذا يعني انسحابها من النفس بقدرٍ ومن المجتمع بقدرٍ أكبر. وما جُعل التدوين إلا خشية الضياع؛ حتى انحدرنا لدرك تدوين أحوال القلوب بعد أن أقفرت الأمَّة، أو كادت؛ من القلوب!
بهذا المعنى يصير سيِّد رأس مُجددي الدرس الكلامي الإسلامي في القرن العشرين؛ مجددي الملَّة الذين يكسرون الأنساق التي تكلَّست بالمذهبيَّة، وينفضوا الغبار عن الآلة، ليستخدمها من شاء إلى آجلٍ.
*****
لقد سألني مرَّة أخ من المتأثرين بكتابات طه عبد الرحمن: لم كان نقد سيِّد انطباعيًّا وليس منهجيًّا؟ وأعيد إجابتي هنا مرةً أخرى لعلها تكون ذات فائدة للمولعين بالمناهج النظريَّة النهائية: إن وضع منهج "معرفي" مُسبق والتقيُّد به في العملية البحثية قد يكون مُفيدًا في الدراسات المختبرية المعملية الساكنة التي يسعى فيها "الباحث" للسيطرة على كل عناصر الموضوع، وهو وهمٌ يمكن الاستسلام له في المعامل فقط. أما في دراسة الواقع المركَّب والظاهرة الإنسانيَّة؛ فإن فكرة "النموذج" التي طوَّرها عبد الوهاب المسيري، رحمه الله؛ هي الأنفع لتقريب إنتاج قطب بما أنه إنسان أولًا، وبما أنه مفكِّرٌ حركي مرَّ بتحوُّلاتٍ كبيرةٍ.
*****
لقد سألني مرَّة أخ من المتأثرين بكتابات طه عبد الرحمن: لم كان نقد سيِّد انطباعيًّا وليس منهجيًّا؟ وأعيد إجابتي هنا مرةً أخرى لعلها تكون ذات فائدة للمولعين بالمناهج النظريَّة النهائية: إن وضع منهج "معرفي" مُسبق والتقيُّد به في العملية البحثية قد يكون مُفيدًا في الدراسات المختبرية المعملية الساكنة التي يسعى فيها "الباحث" للسيطرة على كل عناصر الموضوع، وهو وهمٌ يمكن الاستسلام له في المعامل فقط. أما في دراسة الواقع المركَّب والظاهرة الإنسانيَّة؛ فإن فكرة "النموذج" التي طوَّرها عبد الوهاب المسيري، رحمه الله؛ هي الأنفع لتقريب إنتاج قطب بما أنه إنسان أولًا، وبما أنه مفكِّرٌ حركي مرَّ بتحوُّلاتٍ كبيرةٍ.
ذلك أنه أدرك -ربَّما في مرحلة كتابة "خصائص التصور الإسلامي"- أن التقيُّد بمنهجٍ نظريٍّ دون الوحي؛ يُعيق الحركة في الوجود ويُكبِّلها بقيودٍ بشريَّةٍ توثَّنت في الشعور. ليست حركة "التنظيم" الذي كان سيِّد يؤمن بضرورة التضحية به فورًا إن تعارضت مصالحه مع مصلحة الدعوة إلى الله؛ لكن الحركة بالدعوة بما أنها وظيفة كل مسلمٍ. فالحركة التي قصد إليها وانشغل بها هي حركة المسلم في الوجود بدعوة الله، وبهدف وحيد هو الدعوة إلى الله؛ كل المسلمين في كل الوجود.
ولهذا أفاض في الحديث عن وحدة الشهود الذي يؤثر كل عنصر فيه في العناصر الأخرى بإذن الله، فيتغير شكل الوجود كله بتسبيحةٍ واحدةٍ كما يتغير مناخه بحركة من جناح بعوضة؛ بإذن الله! وأبرز ضرورة انسجام حركة المسلم مع حركة الكون، باختيار المسلم للحاكمية الإلهية -أي هيمنة الوحي على التاريخ- حتى تنسجم الحركتان على مراد الله.
ولهذا رفض "علم الكلام" وأهدره كله؛ أهدره ليولِّد مقولاته الخاصة من الوحي مباشرةً. وكان جُل تركيزه وانهمامه بالوحي دون غيره، واستعادة الإنسان للوحي ليستمد منه مباشرةً "منهجه" و"قواعد" حركته في اجتهادٍ دءوب لا يُلزم غيره من الأجيال، بل يجعل الاجتهاد فرض عين على كل جيلٍ.
إن "مشروع" سيِّد ليس مشروعًا فلسفيًّا نظريًّا، ولا هو بالنزوع الحركيِّ الذي يُهدر النظر. وليس ذلك فحسب تأكيدًا لقوله، بل هو استقراءٌ لطبيعة دعوته وحركته ونمطها وصورة منتجاتها المباشرة.
يتجلَّى ذلك كأبرز ما يكون في المصطلحات التي يستعملها والتصوُّرات التي تتشكَّل حيَّةً بعباراته. فهو حتَّى حين يستعير مُصطلحاتٍ من سياقٍ دلالي مسلم، سياق المودودي مثلًا؛ لا يستخدمها بحمولتها بل يُفككها ويُعيد تركيبها لا ليُغيِّر طبيعتها، فيستخدم المصطلح الجاهلي السكوني في التعبير عن بعض لوازم الظاهرة الحركيَّة الإسلاميَّة؛ بل ليُعيد تركيب المصطلح بعد التخفُّف من الحرارة المشيحانيَّة والتخلُّص من أكثر الحمولة الطوباويَّة، ليسكُن في نسيجه الموَّار باعتباره جزءًا من المشهد لا يتجزأ ولا يبدو منه "نشاز". فثمَّة تناص داخلي في كُلِّ كتاباته؛ تناص حرص هو كناقد أدبي على تأكيده بكثرة الإحالة على التصوُّرات التي يبدأ ببلورتها في مواضع ويزيدها تركيبًا في مواضع أخرى. فهو لا يستخدم الأسلوب الأكاديمي البارد الميِّت في سكِّ شظايا نهائيَّة لتعريفات "جامعة" مُتأيقنة مُكتفية بذاتها؛ لكنه ينسج شبكةً حيَّةً مُتماسكةً تُشبه في جمالها وانسجامها وحرارتها المشهد المسرحي. وقد كان فنانًا واعيًا بأن مشاهده ليست هي الوجود ولا هي الحياة، ولكنها قبسٌ من هذه الحياة؛ قبسٌ قد يُعين على إدراك بعض جمال هذه الحياة الذي استغلق على من انتكست فطرتهم. أما من استغنى بالمشاهد (الإشارات) عن الحياة (الوحي)، فقد انحدر لدرك البعير الأعرج!
كان سيِّد واعيًا بخطورة البنية التي يصطنعها التدوين كحجر عثرةٍ في طريق الحركة. لذا حرص في آخر أعماله على إبراز "خصائص" التصوُّر الإسلامي ومقوِّماته، لا تفاصيله وبنيته. ورصد بعض "معالم الطريق"، لا كُلَّ مراحله وأطواره ونهايته. حرص على إعادة المسلم للوحي ببعض المعالم، ولم يحجُر على اجتهاده وفهمه بأيديولوجيا ترسم الطريق إلى الطوبيا بتفاصيله.
هذا النوع من التدوين، وهذا النوع من الكتابة؛ يعمل عمل الوقود. فهي كتابة تدفع الحركة في عالم الشهود بزادٍ من عالم الغيب. وليست كتابة تنقل عالم الغيب لعالم الشهود؛ لينتهي التاريخ بحدوث الحلول النهائي للمقدَّس في مجال التجربة والخطأ الإنسانيين. إنها كتابة الحركة، أو الكتابة كحركة.
لقد مثَّل سيِّد قطب أول محاولة لمسلم، منذ الهجمة الاستعمارية؛ للحركة خارج مجال الحداثة، فلم تكن حركته ووعيه بها ومقولاته التي ولَّدها من الوحي مباشرةً ردَّ فعلٍ على الحداثة كما كان الحال مع غيره. فلم يتجاوز في ذلك معاصريه فحسب؛ بل تجاوز ذاته أيضًا. تجاوز المنظِّر الأيديولوجي الذي كتب "العدالة الاجتماعيَّة في الإسلام" وانتقل لأفقٍ أرحب. أفقٍ لا يتحرك وفقًا لأيديولوجيا نظريَّة نهائية تم سكُّها مُسبقًا، بل يتحرك بمدد مباشر من الوحي؛ مدد فيه من الجدَّة والحرارة ما لم يكن في سواه.
لهذا كان ما يستعيدُه سيِّد تهديدًا حقيقيًّا ليس للنظام الناصري فحسب، بل للنظام العالمي الجاهلي كله. فالدول القُطرية مُجرَّد لبنات صغيرة في نظامٍ عالميٍّ شكَّلته القوى "الكبرى"، وأيديولوجيات هذه الدول صنعها المستعمر الذي رعى كتابة دستور ماليزيا "الإسلامية"، ودفع لتأسيس باكستان "الإسلامية" ... ما دامت هذه "الإسلامية" ستظل نزعة قطريَّة لا تتجاوز الحدود. لم يكُن وجود سيِّد – المسنُّ المصدور- بحد ذاته هو الخطر؛ بل ما يفعله. فهو لا يقوِّض النسق الأيديولوجي في القلب من النظام العالمي فحسب؛ بل يُشير إلى البنية النهائية كذلك: الدولة القُطرية كلبنة من لبنات نظام عالمي جاهلي. يُشير لها كأنه يُحيل الأجيال التالية عليها، ويطلب منها استكمال ما بدأ. وهي الدعوة التي لبَّاها كليم صديقي بعدها بعقدين من الزمان.
صحيح أن صديقي كان مُثقلًا ببقايا نسق جاهليته الأيديولوجي؛ لكنه نبَّه الأجيال التالية للمرحلة الجديدة التي يجب أن تنشغل بها الحركة الإسلاميَّة.
*****
من العسير أن يدرك القارئ العادي طبيعة التحول النسقي في منظومة سيد قطب وشبكة تصوُّراته، وأكثر ما يُثار في هذا المجال ليس إلا تكرار لكلامه هو نفسه: أنه غير في "أصول" مذهبه، بغير تفصيل. فقارئ قطب لا يمكنه تتبُّع التغيُّر التدريجي للوجهة من خلال كتبه المتوفرة، فهي تبدو كطفرات غير متصلة، وإن كانت مرتبطة بذات الشبكة من التصوُّرات التي تجعله يحيل عليها قي كل موضعٍ، ليستكمل القارئ الصورة من قراءة موازية لكتبه كلها.
صحيح أن صديقي كان مُثقلًا ببقايا نسق جاهليته الأيديولوجي؛ لكنه نبَّه الأجيال التالية للمرحلة الجديدة التي يجب أن تنشغل بها الحركة الإسلاميَّة.
*****
من العسير أن يدرك القارئ العادي طبيعة التحول النسقي في منظومة سيد قطب وشبكة تصوُّراته، وأكثر ما يُثار في هذا المجال ليس إلا تكرار لكلامه هو نفسه: أنه غير في "أصول" مذهبه، بغير تفصيل. فقارئ قطب لا يمكنه تتبُّع التغيُّر التدريجي للوجهة من خلال كتبه المتوفرة، فهي تبدو كطفرات غير متصلة، وإن كانت مرتبطة بذات الشبكة من التصوُّرات التي تجعله يحيل عليها قي كل موضعٍ، ليستكمل القارئ الصورة من قراءة موازية لكتبه كلها.
إن هذا التحوُّل النسقي، أو الانسلاخ الكلِّي من النسق الأيديولوجي للحظة ما؛ لا يمكن إدراكه لو لم يره المسلم عيانًا، أو يرى شبيهًا له. وقد كانت رحلة محمد أسد إلى مكة أهم عناصر إدراكي لإمكان هذا الانسلاخ بين المعاصرين، بل وإدراك أن الانسلاخ من النسق القديم لا يعني إسقاط التصوُّرات الجزئية والإجراءات التي تحتمل التأويل على وجهين ومفاصلتها كما يظن أكثر الإسلاميين، كما لا يعني القطيعة مع المكوِّنات الجاهليَّة لوعيه التاريخي المركَّب ومراحل تطوُّره الفكري التي ساهمت جاهليته فيها بقدر ما ساهم فيها إسلامه. وإنما يعني إعادة ترتيبها وتركيبها في فضاء الحركة الكلِّي وبين غبار المكابدة على مراد الله.
لهذا ربط سيِّد بين الحقيقة و"المنهج"، وأنزل الحقيقة -الوحي- الحياة في المرتبة التي يرفع إليها المتمذهبين والمتفلسفين وأصحاب الأنساق النظريَّة مناهجهم البشريَّة الجامدة، وتصوُّراتهم الأيديولوجيَّة التي تتلبَّس بثوب المنهجية المعرفيَّة والإبستمولوجي. فبدا لأكثرهم بلا "منهج" وبلا "لاهوت نظريٍّ"؛ كونه عرف انطواء الحقيقة على منهجها الخاص. وكونه حرص على تمثُّل الحقيقة بمنهجها الخاص المبثوث في ثناياها وفي سيرة المعصوم صلى الله عليه وسلم. وكونه شرع في الحركة بمنهجٍ صادرٍ عن الوحي ذاته، بغير حجابٍ.
هذا بعض ما رأيت، وبعض ما كابدت.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق