الجمعة، 4 يوليو 2025

كافيار على ورق جرائد


حين يُهان النُبل في أرضٍ لا تعرف مقاديره


في زحام الحياة، قد يُصبح النُبل غربة، وقد يُغدو الإخلاص عبئًا ثقيلاً يُثقل كاهل صاحبه، لا لعيبٍ فيه، بل لأن الأرض التي غرس فيه بذوره لا تأويه، والسماء التي يرفع إليها عينيه لا تمطره.


كم من كفٍّ نزيهٍ امتد ليعطي، فَجُوزي بالنكران؟

وكم من طاقةٍ نبيلة أُفرغت في مساحاتٍ لا تعرف للنور بابًا، ولا للعرفان طريقًا؟

كم من قلبٍ مخلص يُقدّم أجمل ما عنده، فلا يلقَ إلا التبرم أو التجاهل، لأنه – ببساطة – فاض في غير أنهره؟


في هذه الدنيا المتسارعة، يغدو الكفيار الذي أُعدّ بعنايةٍ وتفرّد، غريبًا إن قُدّم على ورق جرائد مبلّل على رصيف شعبي.

ويغدو المتفاني المُتقن، مستنزفًا حين يعمل في بيئة تُعلي من التملّق وتُقصي الكفاءة.


ليست الأزمة في الأداء... بل في المنصة التي يُؤدى عليها.

ليست المشكلة في الروح، بل في المناخ المحيط بها، في الجدران التي تُطفئ صدى الصوت، وفي الأعين التي لا تُبصر غير اللمعان الزائف.


كثيرًا ما التقيتُ على كرسي الاستشارات بأرواح نبيلة، ذات طاقات راقية، لكنها تتآكل بصمت.

هم لا يفتقرون إلى الموهبة وكرم العطاء، بل يفيضون به...

لكنهم أُلقي بهم في مواطن لا تشبههم، في أماكن تهزأ بالحلم، وتُكافئ التنازل، وترى في الصمت ضعفًا لا حكمة.


في كل واحدةٍ من تلك القصص، أدركت أن الغربة ليست دائمًا عن الوطن، بل عن القيمة.


غربة النبيل وسط العبث، غربة المحترف وسط الفوضى، غربة الشغوف في حضرة اللامبالاة.


ليس من العدالة أن نحاكم زهرًا لم يُزهر لأنه زُرع في تربة مالحة.

ولا أن نلوم الشموع لأنها انطفأت حين حاصرها الريح العاتية.


في المجتمعات التي لا تُكرم الطاقات، يُصبح الوفاء غباءً، والإتقان مثارًا للسخرية، والحلم جريمة يُعاقَب صاحبها.


لكنّ الإنسان النبيل، حتى حين يُخذل، لا يتخلى عن نُبله.

يحتفظ بملامحه الجميلة في وجه القبح، ويصبر لا خنوعًا، بل ترفُّعًا.


فيا كل نفسٍ أتعبها الكفاح في موضع لا يُشبهها…

ويا كل يدٍ تعطي ولا تُكافأ…

ويا كل حلمٍ يوشك أن يذبل في بيئة لا تُدرك ألوانه…


اعلم أن الله لا يُضيع عملك، ولا يُسقط دمعك، ولا ينسى صبرك.

وأن انتقالك من أرضٍ لا تليق بك، ليس هروبًا… بل نجاة.

فالذهب لا يفقد قيمته إن سقط في الوحل، لكنه لا يضيء حتى يُلف في الحرير .. 


ابحث عن موطنك… عن بيئتك التي تراك وتحتضنك وتثمِّن نورك.

ولا تبقَ طويلًا حيث يتآكل قلبك، ولو كنت عظيمًا في العطاء.


فالكفيار لا يُقدّم على ورق جرائد في السوق الشعبي


#من_ذاكرة_الاستشارات

#فاطمة_بنت_الرفاعي 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق