دخلت علي أمل ذات مرة أكثر رزانة وشعاعا عن عادتها..
لم أسمع حتى قرع نعليها ولا صوت أنفاسها.. هدوء غريب..
ولكنها ساحرة بنظراتها الصادقة التي ترى منها صفحة قلبها..
ابتسمت وسحبت الكرسي بلا صوت وجلست..
قدمت لها فنجان قهوتها المالحة كما تحبه..
تنفست بعمق ونظرت في عيني طويلا قبل أن تستطيع أن تنبس ببنت شفة..
ابتسمت لها وتناجينا طويلا بلغة العيون حتى بدأت ملامحها تتراخى وسقطت من عينيها دمعة في فنجانها وبدت أسنانها من الابتسامة في آن واحد..
كنت أعلم أن هناك خطبا عظيما أصابها يصعب على عقلها المنظم ولسانها الفصيح وملامحها المعبرة أن تترجمه..
رفعت قدما على قدم وارتخت للوراء وتنهدت.. ثم قالت:
سابقا كنت أرى أنني لست مضطرة لطي صفحة من كتابي عن عيون الناس.. فأنا فخورة برحلتي وتفاصيل حكايتي بكل ما فيها ولا شيء منها يدعو للخجل والتخفي..
ثم علمتني الأيام والمواقف أنك مهما كنت صادقا سيحاكمك الناس وفقا لرؤاهم.. فلو كنت صدّيقة لقالوا: مدعية ولو كنت مجدة في درب ما لقالوا: مهووسة.. وهكذا.. فأغلقت الكتب لأستريح من المحاكمات التي تنهال علي مجانا..
ظننت أنني نجوت.. لكن هيهات.. انتقلت من مربع المحاكمات إلى مربع الاتهامات رجما بالغيب..
صار كل من حولي يتطلع لنبش كتابي وحين لا يستطيع يعاملني كقطعة شطرنج..
يمدوحننا حينا حتى كأنني ملكا متوجا في عيونهم وكأنهم ينتظرون مقابلا لهذا وحين لا يجدونها يخسفون بي أسفل السافلين فيرموني بأحط التهم ..
لوحت بيدها ثم رفعت سبابتها وقالت: وأكثرهم نبلا يستخف بي كأنني حمقا سعيت أو جهلا حييت..
رفعت رأسها المتكئ قليلا وهي تنظر إلي والدمع في عينيها متحجرا يأبى أن ينهمر وقالت: تعرفين.. لست عابئة بهم جميعا..
لكن هذا المجتمع برمته غريب علي لا أشعر بالراحة فيه.. لا أجد مأمنا ولا متكأ ولا مناصا..
وأخيرا انتحبت وعلى صوت أزيز حناياها وقالت:
أنا كجندي وسط الصحراء تتربص به عيون الوحوش وسهام الأعداء وعواصف الطبيعة في آن واحد.. وعليه أن يكون مستعدا ولا رفاهية له ليقول: تعبت ولا أمل لهذه المعارك في الانتهاء..
ولا يلوح في أفقه بادرة أمل أو سبيل نجاة أو سراب مدد..
نولت أمل منديلا وأخرجت لها دفترا كانت قد وضعته عندي أمانة ..
ابتسمت أمل بعزة ويقين من وسط عيونها الدامية بالدمع وملامحها المكفهرة..
اتكأت أنا مقابلها وبدأت أقرأ لها بعض صفحاته عشوائيا..
اليوم: ... الموافق: ... من عام: ... توفيت أمي .. فرغت الدنيا وأنا أعاني أبشع أنواع الألم أكاد أصرخ من أعماقي ولا يسمعني أحد.. وأنا في طريقي لأداء الامتحان الثالث عشر لهذا العام.. لأكون جديرة بظن أمي...
اليوم: ... الموافق: ... من عام: ... خسرت جنيني للمرة الخامسة بلا سبب طبي.. لا أحد بجانبي لمواساتي .. اضطررتي في مساء هذا اليوم أن أكون برفقة صديقتي لأنها تعرضت لحادث أليم..
اليوم: ... الموافق: ... من عام: ... أخذت قرار الانفصال عن زوجي بعدما بذلت كل الأسباب لنجاح هذا الزواج ولكن قضي الأمر.. لا وقت للبكاء يا أمل.. الاختبارات على الأبواب ويجب أن تجدي .. ولا تنسي أن تشتري هدية من المبلغ الباقي معك لصديقتك التي وضعت مولودها الأول..
اليوم: ... الموافق: ... من عام: ... تخرجت من الجامعة .. ليس لدي وقت للاحتفال مع زملائي .. يجب أن أذهب للعمل .. لأنني لم أنهِ آخر دفعة من المصروفات وقد يحول هذا دون تخرجي..
اليوم: ... الموافق: ... من عام: ... انتقلت لعمل جديد في بيئة مختلفة وأنا شديدة الحماس ولدي عزيمة لكتابة صفحة ناصعة أخرى من حياتي.. لقد وصلني خبر وفاة أبي بعد دفنه.. وفي صباح غد لدي اجتماع مع مجلس الإدارة.. بكيت طوال الليل وقمت في الصباح كحلت عيني وذهبت للاجتماع..
اليوم: ... الموافق: ... من عام: ... نعتتني إحدى الزميلات بالعانس من وراء ظهري ابتسمت ومررت كأني لم أسمع.. وفي السوق اليوم لقيت طفلا تائها مذعورا من الزحام فضممته وهدأته حتى لقينا أهله.. وحين هموا بالمغادرة .. قفز وعانقني وقال بحروف أكلتها اللثغة : إنت أذمل أم في الدنيا..
اليوم: ... الموافق: ... من عام: ... كان علي الاختيار بين ضميري ومصلحتي وكان العرض مغريا جدا.. اخترت أخيرا ما أملاه ضميري.. ولكن خسارتي كسرت ظهري ماديا.. ترتبين هذا لاحقا يا أمل.. صديقتي تزف اليوم وعلي أن أكون بجانبها لدعمها..
رفعت عيني ونظرت لأمل وإذا بشلال من الدموع ينهمر في صمت والرضا بادٍ على محياها..
أغلقت الدفتر واقتربت منها قليلا وقلت لها: مَن مِن كل هؤلاء لديه الجرأة ليعيش نصف يوم من أيامك، حتى يمتلك الشجاعة ليحكم على حياتك.. ؟
لا تدعي غبار العواصف يذهب بريق الجواهر.. وكوني فخورة بمسيرتك ولو كنت في عين الناس لا شيء..
والأهم لا تنزلي من عليائك لتكوني عرضة لصفعات الألسن..
ليس كل تواضع محمود ..
اعتدلت أمل في جلستها ومسحت وجهها بكفيها واستقام عطفيها وشمخ أنفها الأعز وبرقت عيون الغزال فيها..
وقالت: لا أحد أليس كذلك؟
قلت: مطلقا..
مدت يديها وأخذت الدفتر وضمته لصدرها ثم ابتسمت وقالت مازحة : كان قرارا صائبا أن بقي هذا الدفتر عندك..
ناولتنيه من جديد ثم أكملت فنجانها المالح وودعتني برضا..
ولكني بقيت أتأمل حال المجتمع الذي صار كتروس مسننة لا ينجو فيه أحد..
أتمنى أن تكون هناك محمية للنماذج الفريدة لحمايتها من الانقراض أو التشوه..
سيأتي يوم تتآكل فيه النماذج المشوهة من مجتمعاتنا، وسنحتاج الفرائد والرواحل ليعيدوا تشجيير هذه الصحراء لتعود جنة كما كانت..
فقط علينا أن نحيط الفرائد على كل الأصعدة بالمزيد من الصيانة والرعاية حتى نضمن مستقبل أفضل لهذه الأمة..
في الحرب العالمية حين حمي الوطيس أمر هتلر بنقل العلماء والمفكرين لمكان آمن بعيد جدا عن أرض المعارك وقال: هؤلاء سيضمنون بناء ألمانيا جديدة بعد الحرب حتى لو هزمنا وتدمرت ألمانيا..
ونحن نحتاج هذا أيضا لضمان استمرار قصة الحضارة على هذا الكوكب..
#أنثروبولوجيا
#فاطمة_بنت_الرفاعي

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق